كوباني، سوريا – أمضيت مؤخراً ليلة في مدينة سيريكانيه (رأس العين)، واستيقظت على أصوات غير مألوفة حوالي الساعة الخامسة صباحاً. نظرت إلى الخارج فرأيت مجموعة من الأسايش (الشرطة الكردية المحلية)، من الرجال والنساء على السواء، يقومون بتمارين بدنية في بقعة أرض فارغة. كانت سيريكانيه مسرحاً لصدامات بين الأكراد ومجموعات مدعومة من تركيا في 2012-2013. والآن يبدو الأسايش هناك وكأنهم جيش منضبط.
على بعد أقل من مئتَي ميل، في كوباني، ثمة أدلة أخرى بأنه لدى الأكراد تطلعات جدّية بالنسبة إلى روج آفا، المسمّاة رسمياً "النظام الاتحادي الديمقراطي في شمال سوريا". لا تزال المدينة أنقاضاً في الجزء الأكبر منها، لكنها تشهد إعادة إعمار ومشاريع بناء جديدة. حتى إن هناك مقبرة جديدة، ما يمكن اعتباره مؤشراً عن الاستقرار المنشود.
الجانب السوري من المعبر الحدودي حيث يرفرف العلمان التركي والكردي لحقت به أضرار واسعة. سُمِّيت الشوارع تيمناً بأكراد سقطوا في الحرب. وتنتشر الآليات المدرّعة المدمّرة المدفونة تحت الأنقاض، والدبابات المتضرّرة، وأنابيب الهاون، وبقايا الصواريخ، في مشهد أشبه بمتحف حرب. تربض دبابتان في ساحة كوباني وكأنهما جزء من نصب تذكاري لتحية المقاومة في كوباني.
كان تنظيم "الدولة الإسلامية" مسكوناً بهاجس كوباني. يشرح عمر علوش، مسؤول العلاقات الخارجية في "حركة المجتمع الديمقراطي"، وهو الائتلاف الحاكم في روج آفا، الأسباب مستعيناً برواية مثيرة للاهتمام لم تتوارد إلى مسامعي من قبل:
"عندما فرضت الدولة الإسلامية حصاراً على كوباني، قطعوا عنا إمدادات الماء والكهرباء. ووجّهوا إلينا دعوة لحضور اجتماع. التقينا في إحدى القرى بين كوباني والرقة في أيار/مايو 2014، قبل أن يشنّوا هجومهم على كوباني. بدأ ممثل الدولة الإسلامية كلامه قائلاً ’أنقل إليكم تحيات [أمير الدولة الإسلامية] أبو بكر البغدادي. الأكراد هم أصدقاؤنا. لدينا عدد كبير من الأكراد في صفوفنا. نريدكم أن تعلنوا دولة كردية إسلامية. سوف يصفّق لكم العالم الإسلامي بأسره. إذا دفع كل مسلم خمسة دولارات لهذه الدولة الجديدة، فسوف تجمع خمسة مليارات دولار. أنتم أحفاد صلاح الدين الأيوبي. مثلما حرّر القدس، يمكنكم أن تجعلوا جميع الدول في الشرق الأوسط، لا سيما شمال كردستان وتركيا، تعتنق الإسلام‘".
تابع علوش: "سألت ممثّل الدولة الإسلامية إذا كان [الرئيس التركي رجب طيب] أردوغان صديقهم أم أنهم مناهضون له. فكان جوابه ’لا تفقهون في السياسة. أردوغان كافر. نولّد انطباعاً الآن بأننا ندعمه لأن هذا ما تمليه مصالحنا. أردوغان صديق لليهود‘. أنهيت النقاش عند هذا الحد بالقول بأنه لا نيّة لدينا أو مخطط لإنشاء دولة إسلامية".
الحصار والحظر يجعلان إعادة الإعمار مهمة صعبة
لم تسقط كوباني كما أعلن أردوغان ببهجة شديدة، لكنها دُمِّرت بالكامل. والآن تواجه عوائق كبرى في مسارها نحو المعافاة، مثل الحظر والحصار والصدامات في منطقتَي منبج والباب. يشرح خالد محمود، وزير المال المساعد في مقاطعة الجزيرة في روج آفا، الوضع:
"نحن محاصَرون من أربعة اتجاهات. الحدود مغلقة؛ لا يمكننا مزاولة التجارة بطريقة عادية. بعدما حرّرنا سيريكانيه وتل أبيض، أغلقت تركيا المعابر الحدودية المؤدّية إلى البلدتَين. نواجه صعوبات في استيراد السلع التي تشكّل حاجة ماسة، من إسمنت وحديد وأدوية وطعام للأطفال وتكنولوجيا. في تموز/يوليو، أرادوا [أي حكومة إقليم كردستان في شمال العراق] أن يبيعونا منتجات لا نحتاج إليها مثل المشروبات الغازية والماء والسيراميك مقابل القمح والقطن والعدس من عندنا. لكننا نعمل على تخزين منتجات استراتيجية قد يحتاج إليها شعبنا. لذلك لم نستطع بيع تلك السلع إليهم".
أضاف: "أرادت [حكومة إقليم كردستان] شراء أضاحي من منطقة إدلب. سمحنا بذلك مع إخضاعها لضرائب طفيفة. يفرضون حدوداً على مبيعات السكّر من حكومة إقليم كردستان إلى روج آفا. ولا يسمحون ببيع مولّدات بقوّة أكثر من عشرة أمبيرات. بسبب الحصار المفروض على حكومة إقليم كردستان، يجري تهريب البضائع من العراق وتركيا، ما يؤدّي إلى ارتفاع أسعارها. لقد أغلقت تركيا معابرها طوال ثلاثة أعوام. ولجأنا بدلاً من ذلك إلى التبادل التجاري مع مناطق أخرى في سوريا، عن طريق الرقة عادةً".
تابع محمود مشتكياً من القيود التي يفرضها النظام السوري: "لا يسمح النظام باستيراد كل شيء عن طريق الجو. أردنا استيراد مطابع لطباعة الكتب المدرسية؛ لكنهم رفضوا. أحضرها التجار براً، إنما بسعر أغلى بكثير. لا يسمحون باستيراد التكنولوجيا الطبية، فيُضطرّ السكان إلى الذهاب إلى دمشق للحصول على العلاج. هذا ما تريده الحكومة. لدينا 1200 بئر نفطي، لكن 300 منها فقط قيد العمل. وما تنتجه هو للاستعمال المحلي. ليست لدينا معامل تكرير لمعالجة النفط".
بيد أن محمود يحافظ على تفاؤله قائلاً: "لا يتملّكنا اليأس على الرغم من الحظر والحصار. لدينا القمح والقطن والنفط والماء. نبيع الوقود بأسعار منخفضة. ندفع رواتب لـ35000 شخص فضلاً عن عناصر وحدات حماية الشعب. لدينا مشكلات في التيار الكهربائي، لكننا أفضل حالاً من مناطق أخرى في سوريا. نؤمّن التيار الكهربائي 12-13 ساعة في اليوم للمنازل. في الوقت الراهن، يقطع الأتراك الماء عن سد تشرين. لذلك لم يعد بإمكاننا توليد الطاقة الكهربائية هناك. عندما نتمكّن من ذلك، سوف تنتهي كل مشكلاتنا في قطاع التيار الكهربائي".
أنقاض ضريح
في تل أبيض شرق كوباني، ومنبج غرب نهر الفرات، تُختبَر الشراكة بين الأكراد والعرب والتركمان على الأرض بعد طرد تنظيم "الدولة الإسلامية". قبل التوجّه غرب الفرات انطلاقاً من كوباني، زرت ضريح سليمان شاه الذي أصبح مدمّراً بالكامل. قام الجيش التركي، بناءً على أوامر من الحكومة، بإجلاء الضريح بمساعدة من وحدات حماية الشعب، ونقل الناووس. ثم فجّر الجنود القبر والمساكن المجاورة التي كان يستخدمها حرّاس الضريح الأتراك. وقُدِّمَت هذه العملية إلى الرأي العام التركي بأنها انتصار. لقد تركوا وراءهم أنقاضاً، وأكياس رمل ممزّقة، وقطعاً رخامية مبعثرة، وأشجار نخيل ذاوية.
شُذِّبَت الأشجار المزروعة على المنحدر قبالة نهر الفرات بطريقة نقرأ من خلالها كلمة "الله" باللغة العربية. عند العبور إلى غرب الفرات، نرى سلسلة من الشاحنات المركونة، ما يعطينا فكرة جيدة عن أهمية ذلك التقاطع. إنها محطة استراحة للشاحنات والصهاريج القادمة من دير الزور والرقة باتجاه حلب والحدود التركية. يُظهر العدد الهائل للشاحنات حجم التجارة في المناطق الخاضعة لسيطرة "الدولة الإسلامية".
منبج صامدة
يتخطّى عدد سكان منبج والقرى المجاورة خمسمئة ألف نسمة. لم أرَ عناصر "وحدات حماية الشعب" و"وحدات حماية النساء" في منبج حيث توجد نقاط تفتيش. كانت الشوارع تنبض بالحياة، ويسود الهدوء في البلدة التي تتولى إدارتها جمعية منبج الشعبية ومجلس منبج العسكري. من المؤكد أن الأكراد يعملون سراً للسيطرة على البلدة، لكنهم لا يتنقّلون كي لا يثيروا مشاعر العداء والضغينة لدى العرب. ليست الأكثرية الديموغرافية العربية-التركمانية العائق الوحيد بالنسبة إلى الأكراد في منبج. فكما في مدينة الباب، يتمتع المحافظون المحليون بالقوة هنا أيضاً. بلدتا جرابلس والراعي اللتان تخضعان حالياً لسيطرة الجيش التركي، هما بمثابة قريتَين صغيرتين بالمقارنة مع منبج.
كل شيء على ما يرام في تل أبيض
سألت علوش، المسؤول في "حركة المجتمع الديمقراطي"، عن الحياة في تل أبيض. فأجاب أن الأشخاص الذين غادروا المنطقة عادوا إليها، ما عدا بعض العائلات التي كانت تنتمي إلى تنظيم "الدولة الإسلامية" وأجبرت الأكراد على المغادرة في العام 2013. وقد انضم العرب والتركمان إلى الهيئات الحاكمة في المنطقة. قال علوش: "مَن لم يعودوا هم الأشخاص الذين التحقوا بتنظيم الدولة الإسلامية وارتكبوا مجازر. لو أردنا تدمير قرى، لكنّا دمّرنا بلدة القنيطرة حيث لا تزال تعيش أسرة أقدمت على قتل أكراد. لم يُكسَر حتى زجاج نافذة واحدة في تلك البلدة. الأشخاص الذين فقدوا منازلهم في الهجمات الجوية على القرى يعيشون الآن في خيمٍ قمنا نحن بتأمينها لهم".
أضاف: "عندما حرّرنا تل أبيض في 18 حزيران/يونيو 2015، كانت خالية عملياً. احتشد السكّان عند الحدود من دون العبور إلى تركيا. طلبنا منهم العودة إلى منازلهم. وقد عاد بعضهم. وعندما رأوا أننا نقدّم لهم المساعدة، نصحوا المتردّدين بأن يعودوا هم أيضاً. استغرقوا بعض الوقت ليتحلّوا بالثقة الكافية كي يفتحوا متاجرهم من جديد، لكن شيئاً فشيئاً عادت الحياة إلى طبيعتها. اتّصل بنا وجهاء القبائل، وأنشأنا المجلس الأول، المؤلَّف من خمسة قادة رأي، في 15 تموز/يوليو 2015، وأعقبه تشكيل جمعية الحكم الذاتي الديمقراطي. أنشأنا 11 لجنة للاهتمام بشؤون الصحة والتعليم والاقتصاد والإدارة المحلية".
ولفت علوش إلى أن كل واحدة من اللجان تضم أكراداً وعرباً وتركماناً. وبما أن عدد التركمان قليل، "قمنا بتأمين مساكن لهم في البلدة كي يصبحوا من سكّان تل أبيض. لسوء الحظ، يتعاون عدد كبير من التركمان مع الدولة الإسلامية. لكننا رحّبنا بهم في هيئاتنا الإدارية شرط ألا يكون أشخاصٌ تربطهم بهم صلة نسب قريبة متورطين مع الدولة الإسلامية. أردنا تعليم اللغة التركية لأولاد التركمان لكننا لم نستطع إيجاد مدرِّسين. حتى إننا لم نستطع العثور على شخص ليكتب لافتة باللغة التركية لبلدية سلوك".
تُكتَب ملحمةٌ في روج آفا؛ يعلّق أحد الطرفَين آمالاً كبيرة على المستقبل، فيما يشعر الطرف الآخر بأنه مهدَّد بسبب تلك التطلعات. يستحق هذا الوضع المتابعة.