عندما كان أرييل شارون رئيساً للوزراء عن حزب الليكود، تعرّض في غالب الأحيان لضغوط من حزبه من أجل رفض المطالب الأميركيّة المتعلّقة بوقف أعمال البناء في المستوطنات والمضيّ قدماً في المفاوضات مع الفلسطينيّين. لكنّ شارون كان يعرف تماماً كيف يستفيد من هذه الضغوط سياسياً ودبلوماسياً. فكلّما زاد غضب الناس منه أصبحت لديه حجّة أفضل يقدّمها إلى البيت الأبيض لكي يبرّر لما هو مكبّل اليدين في تعامله مع الفلسطينيّين. عندئذٍ، قد تغضّ واشنطن الطرف عن أيّ أعمال بناء مستمرّة في الضفّة الغربيّة.
وقد اعتمد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هذه المقاربة بدوره منذ عودته إلى الحكم سنة 2009. فكلّما تعرّض لضغوط من إدارة أوباما ذكر القيود السياسيّة المحليّة التي تحدّ من قدرته على المناورة سياسياً. وكلّما زاد حزب الليكود تطرّفاً أصبح بإمكانه استعمال هذه الحجّة أكثر. وقد استفاد نتنياهو من هذه المقاربة بطريقة أخرى أيضاً. فقد سمحت له بأن يبيّن لمؤيّدي الليكود أنّه الشخص الوحيد الذي يقف في وجه ضغوط الإدارة الأميركيّة العدائيّة. وقد ساعدته علاقته المضطربة مع الرئيس باراك أوباما، التي تدهورت على مرّ السنين، إلى حدّ كبير في جميع حملاته الانتخابيّة الأخيرة وكلّما وجد نفسه عالقاً في أزمة سياسيّة ما.
وللمفارقة، إنّ إدارة ترامب هي التي تضع نتنياهو أمام تحدٍّ سياسيّ ودبلوماسيّ كبير بشكل غير اعتياديّ. فظاهرياً، يبدو أنّ نتنياهو حصل على "الرئيس الذي يحلم به" وبات بإمكانه تلبية رغبات اليمين الإسرائيليّ القصوى جميعها. لكن منذ تنصيب ترامب رئيساً في 20 كانون الثاني/يناير، يحاول نتنياهو تجنّب وابل من الضغوط التي يمارسها عليه اليمين بقيادة خصمه نفتالي بينيت، وزير التعليم الذي يزعم أنّ الإدارة الأميركيّة الجديدة تقدّم إلى إسرائيل فرصة تاريخيّة لضمّ المستوطنات.
لقد وجد نتنياهو نفسه فجأة في وضع ليس معتاداً عليه ومن الممكن أن يلحق به ضرراً كبيراً في أوساط قاعدته اليمينيّة. فعليه الآن أن يكون صوت الاعتدال في حكومته وأن يعيق أيّ مبادرات يقترحها أعضاء الحكومة اليمينيّون. ويدرك نتنياهو جيّداً أنّ زعيم حزب البيت اليهودي، نفتالي بينيت، يسجّل نقاطاً سياسيّة على حساب رئيس الوزراء، ومع ذلك تبقى يداه مكبّلتين. فهو لا يستطيع نسف الجسور كلّها مع المجتمع الدوليّ. بالإضافة إلى ذلك، إنّ ترامب شخص يصعب توقّعه، ونتنياهو لا يعرف ما ستكون سياسته. مثلاً، هل سينقل بالفعل السفارة الأميركيّة إلى القدس أم أنّه سيخلّ بوعده؟
لقد كان الاختبار الأوّل لنتنياهو بعد أقلّ من يومين على تنصيب ترامب رئيساً. فقد بدأ بينيت يلوّح بقانون ضمّ مستوطنة معاليه أدوميم في كلّ مناسبة ممكنة، معلناً أنّه سيطرح قانونه هذا على اللجنة الوزاريّة لشؤون التشريع من أجل التصويت عليه. وقدّم هو والعضو الثاني في حزبه، وزيرة العدل أيلييت شاكيد، رؤية محدّدة مناقضة لجهود نتنياهو الهادفة إلى إرجاء مناقشة القانون إلى ما بعد زيارته للبيت الأبيض المرتقبة الشهر المقبل.
ولجأ بينيت إلى "تويتر" لمهاجمة رئيس الوزراء بشأن هذه المسألة الحسّاسة. فكتب في 21 كانون الثاني/يناير: "لقد دخلنا حقبة سياسيّة جديدة. للمرّة الأولى منذ 50 سنة، يعود القرار إلى رئيس الوزراء: إمّا السيادة وإمّا فلسطين. إنّ الاستمرار في مقاربة بار إيلان/فلطسين سيؤدّي إلى ذرف الدموع لسنوات طويلة. سوف نسعى إلى تحقيق السيادة". بار إيلان هو خطاب حول حلّ الدولتين ألقاه نتنياهو سنة 2009.
بالإضافة إلى ذلك، تمّ اقتراح خطط متعدّدة في حزب الليكود حشرت نتنياهو في الزاوية. ومن بينها خطّة قدّمها وزير المواصلات والاستخبارات يسرائيل كاتس الذي أعلن في نهاية الأسبوع أنّه يعتزم طرح "برنامج المبادرة الإسرائيليّة" الخاصّ به على الحكومة من أجل مناقشته. وتقضي هذه الخطّة بضمّ المستوطنات المحيطة بالقدس، بما في ذلك معاليه أدوميم، وغيفات زيف، وغوش إتزيون، وبيتار عيليت. ويريد كاتس دمج هذه المستوطنات في ما يسمّيه "القدس الحضريّة الكبرى"، على أن تبقى كيانات بلديّة مستقلّة. وكتب الوزير على صفحته على "فيسبوك": "إنّها الخطوة السياسيّة الضروريّة الأولى في عهد ترامب".
وكان من المفترض أن يشكّل 22 كانون الثاني/يناير معلماً مهمّاً بالنسبة إلى اليمين الإسرائيليّ في عهد ترامب. فقد كان من المفترض مناقشة مبادرات الضمّ جميعها في الحكومة الأمنيّة بغية تحديث سياسة التحالف بما يتماشى مع التغييرات المتوقّعة في علاقة إسرائيل مع الإدارة الأميركيّة الجديدة. لكنّ نتنياهو تمكّن من تأجيل فخّ الحكومة الأمنيّة أقلّه إلى ما بعد اجتماعه مع ترامب في شباط/فبراير. وانتظر نتنياهو اتّصالاً هاتفيّاً من الرئيس الجديد بعد ساعات قليلة من اجتماع الحكومة. وقال رئيس الوزراء لأعضاء الحكومة إنّ الأميركيّين توسّلوا إليه عدم مفاجأة ترامب بأيّ خطوات دبلوماسيّة غير منسّقة مسبقاً مع الرئيس الجديد.
لم يصدّق حزب البيت اليهوديّ ما قاله نتنياهو عن الرسائل التي تلقّاها من البيت الأبيض. وقد سخرت شاكيد من مزاعم نتنياهو في مقابلة مع إذاعة الجيش "آرمي راديو"، قائلة: "لم أتلقّ أيّ رسالة من مكتب ترامب. من المهمّ أن ندرك أنّ قواعد اللعبة قد تغيّرت، وأنّه علينا التوقّف عن اللعب بناء على القواعد القديمة. إنّ الرسالة التي نتلقّاها من الولايات المتّحدة هي "تعالوا وأخبرونا بما تريدون"".
وإلى جانب عرقلة محاولات الضمّ، يحاول نتنياهو التأقلم مع الحقبة الجديدة ومع الصراع المتجدّد للفوز بأصوات من اليمين. ولذلك، حرص على القول إنّه يتشارك رؤية تطبيق السيادة الإسرائيليّة على كلّ المستوطنات، وأعلن في اجتماع للحكومة الأمنيّة أنّ جميع القيود المفروضة على أعمال البناء في القدس سوف تُرفع وأنّ أعمال البناء سوف تتوسّع في الكتل الاستيطانيّة. وقال رئيس الوزراء: "سوف تخضع مدينة [معاليه أدوميم] للسيادة الإسرائيليّة، لكن الآن ليس الوقت المناسب لاتّخاذ خطوات جديدة من دون التنسيق مع الحكومة الأميركيّة".
في تلك الليلة، تحدّث نتنياهو بالفعل مع ترامب عبر الهاتف. وقال كلا الطرفين إنّ المحادثة كانت جيّدة، لكنّ كلّ من كان ينتظر ضوءاً أخضر من أجل مبادرات اليمين خاب ظنّه. فعدا عن الكلام بشكل عامّ عن التعاون الأمنيّ والحرب الدوليّة على الإرهاب والمفاوضات مع الفلسطينيّين، لم يناقش الطرفان مسائل جوهريّة.
والسؤال الذي يُطرح الآن هو ما ستكون سياسات الإدارة الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، لكم من الوقت سيتمكّن نتنياهو من المناورة بين القيود الدبلوماسيّة المتعدّدة وصراعه الشخصيّ ضدّ خصومه، بشكل عامّ وفي حزب الليكود؟
يُعتبر السؤال الأخير مهمّاً جداً بما أنّ رئيس الوزراء بات لديه خصم جديد في التحالف هو زعيم حزب "إسرائيل بيتنا"، وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان. يحاول ليبرمان أن يتبنّى موقف اليمين البراغماتيّ المعتدل. وما يعنيه ذلك من ناحية الممارسة هو أنّه يعارض الضمّ، أقلّه في هذه المرحلة. وقد أعلن أيضاً معارضته لبينيت، وهو أمر لا يستطيع نتنياهو أن يفعله في الوقت الحاليّ.
لقد بات نتنياهو ضعيفاً من كلّ زاوية سياسيّة لأنّه عالق بين هذه التجاذبات ولأنّه في الوقت نفسه يحمل عبء التحقيقات الجنائيّة في صفقاته. وإذا بدأت كتلته التصويتيّة المخلصة تميل نحو بينيت، فقد يجد نفسه مضطراً إلى القيام بمبادرات سياسيّة مفرطة، بغضّ النظر عن تشعّباتها على الساحة الدوليّة.