مع بدء المرحلة الثانية من عمليّات الموصل في 29 ديسمبر/كانون الأوّل، انتشرت عشرات الجثث لمقاتلي "داعش" في أحياء السلام والانتصار والوحدة وفلسطين والقدس في شرق الموصل، والحال نفسه في خصوص الأحياء التي تمّ تحريرها سابقاً. فلا أحد يجرؤ على دفن جثث الدواعش، حيث هناك تخوّف من أن تكون مفخّخة أو ملوّثة بأمراض خطيرة، أو تقشعرّ نفسه منها، كما أنّ هناك أحياناً تخوّفاً من أن يحسب الفرد من أقرباء صاحب الجثّة، وعليه تتمّ متابعته أمنيّاً.
إنّ جثث المقاتلين تملأ الشوارع، وقد شاهد "المونيتور" العشرات منها في الأحياء المحرّرة، بعضها لم يتبقّ منها غير هيكلها العظميّ، تركتها الكلاب عارية عن لحمها، وأخرى هناك انتفخت فغطّيت بقطعة قماش رماديّة، تبرّع بها أحدهم، بينها جثمت بقرة، ماتت متأثّرة بالشظايا، إثر الاشتباكات المسلّحة.
والهواء مشحون بروائح نتنة تزكم أنوف المارّين ممّن امتنعوا عن دفن الجثث، أو حملها بعيداً، واكتفوا بسدّ أنوفهم، حابسين أنفاسهم وهم يتجوّلون لتبضّع حاجاتهم اليوميّة، وسط السوق الشعبيّ المكتظّ في شرق الموصل.
لماذا يمتنع الأهالي عن دفن الجثث؟
مع الدخول الأوّل للقوّات العراقيّة إلى قرية كوكجلي في شرق الموصل، في تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي، أظهرت شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعيّ مشاهد سحل الأهالي قتلى عناصر تنظيم الدولة الإسلاميّة كردّ فعل انتقاميّ، وبمشاركة الأطفال الذين كانوا يركضون خلف الجثث، رافعين شارة النصر ومبتسمين للكاميرات. بعد تقدّم القوّات العراقيّة داخل الأحياء الشرقيّة للمدينة، تركت الجثث في الشوارع العامّة لتكون وليمة دسمة للكلاب الجائعة، أو ليتمّ رميها مع كومة النفايات عند مداخل الأحياء السكنيّة.
يقول أبو محمّد، من أهالي حيّ التحرير: "يشعر الناس بالقرف، لذا يمتنعون عن دفن جثث الدواعش". ويضيف: "بالقرب من مكان عمليّ، هناك بقايا لرأس أحدهم ويده، غداً سأحمل معي مجرفة، وألقي الرمال عليها، لأتخلّص من الرائحة العفنة".
أمّا الموصلي فؤاد جابر، فعلى الرغم من معارضته ابن عمّه المنضمّ إلى صفوف التنظيم، وجد نفسه مضطّراً إلى دفنه، بعدما قتل في معارك تحرير منطقة الأربجيّة، ويقول: "اشتكى الأهالي من الرائحة، ممّا اضطرّني إلى استئجار جرّافة، وقمت بدفنه مع جثث أخرى لا أعرفها، في حفرة عميقة في الأربجيّة".
عندما انطلقت معارك تحرير الأنبار وصلاح الدين في عام 2015، كان التنظيم ينقل جثث عناصره إلى مراكز الطبّ العدليّ في مستشفيات مدينة الموصل، ليتمّ دفن الأجانب والعرب منهم، وتسلّم جثث العناصر المحليّين إلى عوائلهم. أمّا اليوم فلا دور للطبّ العدليّ في انتشال الجثث من الطرقات العامّة، كون مدينة الطبّ تقع في الجانب الأيمن من الموصل المسيطر عليه من قبل التنظيم المسلّح، وفي ما يخصّ المشافي في الجانب الأيسر، فهي واقعة في مناطق الاشتباك وخارجة عن الخدمة.
قال مدير بلديّة الموصل عبد الستّار الحبّو لـ"المونيتور": "توجد سبع عشرة جثة على الأقلّ في حيّي الزهراء والتحرير أمام أعين المارّة، ولم نتمكّن من رفع ثلاث جثث مفخّخة بأحزمة ناسفة، إلّا بعدما تمّ تفككيكها من قبل طاقم الجهد الهندسيّ"، ويضيف: "نقوم برفع الجثث غير المفخّخة مع أكوام النفايات من الأحياء السكنيّة، لتسهيل حركة المواطنين في المناطق المحرّرة".
وبيّن الحبّو أنّ التنسيق بين دائرة بلديّة الموصل والقوّات الأمنيّة مستمرّ، لذا كمرحلة أولى يتمّ وضع علامات تميّز الجثث المفخّخة من قبل القوّات المحرّرة، بعدها يقوم الجهد الهندسيّ بتفكيكها، ليأتي في النهاية دورنا في رفع هذه الجثث من المناطق السكنيّة والأسواق. يتّضح من ذلك أنّ مدّة بقاء جثث عناصر "داعش" المفخّخة هي أيّام ليست بالقليلة، وهذا يزيد من مخاطر تفجيرها على السكّان.
الجثث تحت الأنقاض وسيلة لعب لأطفال الموصل!
يتردّد الأهالي عن دفن جثث قتلى تنظيم "داعش"، خشية تسجيل ملاحظة ضدّهم من القوّات العراقيّة المسيطرة على المناطق، وبيّنت الجهّات الأمنيّة أنّها لا تمانع قيام المواطنين بهذا الأمر. وقال قائد فرقة مكافحة الإرهاب اللواء الركن فاضل برواري لـ"المونيتور": "سلامة أهل الموصل وأطفالهم تهمّنا في الدرجة الأولى، لذا لا نمنعهم من دفن جثث الدواعش إن رغبوا في ذلك، ولا نريد للجثث أن تبقى في الشوارع كما حدث في عمليّات الرمادي، فالموضوع إنسانيّ في النهاية". وأضاف: "بلغ عدد قتلى الدواعش أكثر من 2300 عنصر خلال عمليّات تحرير المحورين الشماليّ والشرقيّ للمدينة، وحتّى اللحظة، يوجد عدد كبير من جثثهم تحت الأنقاض".
يذكر أنّ هناك أشلاء وجثثاً أخرى تعود إلى مدنيّين دفنت أيضاً تحت الأنقاض، ويصعب انتشالها، فبلديّة الموصل تعمل بتسعة وعشرين آليّة فقط، وبنظام الدفع الآجل، بعدما كانت قد فقدت آليّاتها، ولم يوفّر لها تخصيص ماليّ جديد من قبل حكومة بغداد حتّى اللحظة. وكان بعض الأهالي قد قالوا لنا إنّهم دفنوا جثث موتاهم في حدائق منازلهم، بعدما صعب عليهم نقل الجثامين إلى المقابر المخصّصة، إثر الاشتباكات والقصف المستمرّ.
يوسف البالغ من العمر تسع سنوات، يتزعّم أصدقاءه في الحيّ، ويسير أمامهم حاملاً نصف بندقيّة كلاشينكوف محترقة، كان قد وجدها في أحد المنازل المتهدّمة في القرب من بيته في حيّ البكر، عندما كان يلعب هناك، يقول يوسف لـ"المونيتور": "وجدنا داخل البيت جثّتين للدواعش، لكنّنا خرجنا بسرعة، بعدما أخذنا البندقيّة، فالرائحة كريهة هناك". وعند سؤاله إن كان يخاف من منظر الجثث، قاطعني بسرعة: "لم نعد أطفالاً صدّقيني، بعد كلّ ما رأيناه، نحن الآن وحوش".
والحال هو أن الجثث في شوارع المدينة تشكّل تهديداً صحيّاً للأهالي، كما أنّها تضرّ بالصحّة النفسيّة للأطفال، ممّا يتوجّب التخلّص منها بطريقة صحيّة في أقرب وقت ممكن.