رام الله، الضفّة الغربيّة - قرابة عام كامل مرّ على اندلاع الهبّة الشعبيّة في الضفّة الغربيّة، الّتي بدأت إرهاصاتها تتبلور، إثر جريمة حرق المستوطنين لعائلة دوابشة في بلدة دوما بمحافظة سلفيت - شمال الضفّة الغربيّة في 31 تمّوز/يوليو 2015، فاندلعت على أثرها اشتباكات في مختلف أرجاء الضفّة الغربيّة بين الفلسطينيّين وقوّات الجيش الإسرائيليّ والمستوطنين، ورفع من زخمها مقتل مستوطنين اثنين في عمليّة إطلاق نار نفّذها فلسطينيّون في 1 تشرين الأوّل/أكتوبر 2015 قرب مستوطنة إيتمار - شمال الضفّة الغربيّة، ومقتل مستوطنين اثنين في عمليّة طعن وإطلاق نار في القدس نفّذها شاب فلسطينيّ استشهد في المكان بـ3 تشرين الأوّل/أكتوبر، ليدفع الجيش الإسرائيليّ بمئات الجنود إلى المدن والقرى الفلسطينيّة.
ويبدو الكثير من مظاهر الهبّة الشعبيّة قد خفت اليوم، كالمواجهات على الحواجز العسكريّة ومناطق التماس، كمستوطنة بيت إيل، وحاجز عوفر في محافظة رام الله والبيرة، ومنطقة باب الزاوية في الخليل، وحاجز حوّارة في نابلس. كما انخفض عدد العمليّات الفرديّة (الدهس والطعن) ضدّ المستوطنين والجنود الإسرائيليّين في الضفّة الغربيّة.
ويظهر تدنّي عدد العمليّات الفلسطينيّة خلال الأشهر الأخيرة، مقارنة ببداية الهبّة، في إحصائيّة نشرها جهاز الأمن الداخليّ الإسرائيليّ الشاباك، إذ بلغ عدد العمليّات في تشرين الأوّل/أكتوبر من عام 2015 نحو 609 عمليّات، (بما في ذلك عمليّات الرشق بالحجارة والزجاجات الحارقة) حسب التقرير السنوي له للعام 2015 والذي تشر في 1 نيسان/ابريل 2016، بينما بلغ عددها في آذار/مارس من عام 2016 نحو 155 عمليّة، تراجعت إلى 101 عمليّة في أيّار/ مايو الماضي، و103 في حزيران/يونيو حسب ما نشره الموقع في شهر حزيران.
كما يظهر ذلك بانخفاض عدد الشهداء الفلسطينيّين، الّذين بلغ عددهم 145 في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2015، بينما بلغ عددهم 92 شهيداً منذ بداية العام الجاري.
وفي هذا الإطار، قال عضو المكتب السياسيّ لحزب الشعب خالد منصور لـ"المونيتور": "إنّ الهبّة الشعبيّة خفتت، لأنّها لم تجد حاضنة سياسيّة لها من القيادة والفصائل الفلسطينيّة، وبقيت بلا رعاية".
أضاف: "إنّ القيادة والفصائل تخوّفتا من الهبّة الشعبيّة، ولم يتمّ إيلاؤها الاهتمام الكافي والدعم المطلوب لتطويرها، ممّا ساهم في تراجعها، إلى جانب تأثير البطش الإسرائيليّ المتمثّل بالاعتقالات الواسعة في صفوف المواطنين والاقتحامات اليوميّة والإعدامات الميدانيّة ".
ورغم ذلك، رأى خالد منصور أنّ "العوامل والأسباب الّتي أدّت إلى اندلاع الهبّة الشعبيّة لا تزال قائمة على الأرض، أبرزها إحباط الشباب من العمليّة السياسيّة واستمرار الإحتلال في انتهاكاته المختلفة من استيطان ومصادرة أراضي وتنفيذ إعدامات ميدانيّة"، وقال: "إنّ الإسرائيليّين يدركون مثلنا أنّ الهبّة الشعبيّة رغم تراجعها، تبقى ناراً تحت رماد، قد تنفجر في أيّ لحظة، وربّما بشكل أكثر زخماً وقوّة".
وعمّا يعنيه تراجع الهبّة لدى الفلسطينيّين وتأثيرات ذلك عليهم، قال منصور: "إنّ الشارع الفلسطينيّ يعيش إحباطاً عارماً بسبب عدم تطوّر الانتفاضة وقطف أيّ من الثمار السياسيّة، واستمرار الإحتلال واعتداءاته اليوميّة بحقّه".
واظهرت نتائج استطلاع للرأي نشره مركز اوراد في 9 كانون ثاني/يناير 2016، ان 90% يعتقدون بأن الاحتجاجات الحالية غير منظمة من قبل القوى السياسية، فيما اعرب51% عن اعتقادهم ان الهبة الحالية لن تتطور الى انتفاضة شاملة، بينما اجمع 97% على أن التهديدات الاسرائيلية لوضع الأماكن المقدسة في مدينة القدس والتوسع الاستيطاني والإغلاق تشكل السبب الرئيسي لاندلاع هذه الاحتجاجات
وكان المركز الفلسطينيّ لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجيّة مسارات، قد أصدر ورقة تقدير في 13 تموّز/يوليو، اطّلع عليها "المونيتور"، قال فيها: "إنّ الهبّة في شكلها الحاليّ وضمن الظروف المحيطة لا تمتلك أسباب الديمومة والاستمرار، لأنّ الفعل الانتفاضيّ لا يجب أن يبقى عفويّاً، وإلاّ فقد زخمه وقدرته على الاستمرار، رغم قمع الإحتلال. ومن المرجّح أن يفقد بوصلته إن لم يكن له "عقل سياسيّ" يديره ضمن إطار عمل منظّم".
وإذا كانت الهبّة الشعبية قد امتازت بأنّها عمل فرديّ غير منظّم، ولا توجد لها قيادة سياسيّة تديرها، ممّا صعّب من ملاحقة إسرائيل قادتها سواء بالاعتقال او الاغتيال من اجل وقفها او الحد من تطورها كما حدث في الانتفاضتين السابقتين من ملاحقة قادتها، فإنّ ذلك أدّى إلى تراجعها، وفق رؤية الكاتب والمحلّل السياسيّ الدكتور عبد الرّحمن التميمي الّذي قال أيضاً لـ"المونيتور": "إنّ الهبّة الشعبيّة تراجعت لأنّها عبارة عن عمل فرديّ غير منظّم وتفتقد إلى رؤية سياسيّة تحدّد لها إلى أين تتّجه مع غياب الأحزاب والفصائل الفلسطينيّة عن المشاركة فيها ورغبة السلطة في إنهائها، خشية تطوّرها وعدم السيطرة عليها وعدم قطف ثمارها بعد عام من اندلاعها، الأمر الّذي تسبّب في إحباط الفلسطينيّين".
ولم تستطع الهبّة الشعبيّة تحريك الجمود في الملف السياسيّ القائم بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، إثر توقّف المفاوضات في نيسان/إبريل من عام 2014 بسبب رفض إسرائيل الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيّين المعتقلين قبل إتّفاق أوسلو.
ولم يخف عبد الرّحمن التميمي قراءته السياسيّة المستقبليّة حيال الوضع الراهن من عدم تطوّر الهبّة الشعبيّة وجمود العمليّة السياسيّة، قائلاً: "أعتقد أنّ إسرائيل ماضية في مخطّطاتها الاستراتيجيّة المتمثّلة بفصل قطاع غزّة عن الضفّة، وهو أمر يجري الإعداد له لكي تصبح غزّة كياناً منفصلاً، فضلاً عن ضمّ إسرائيل لمنطقة الأغوار لتصبح منطقة إسرائيلية كاملة، إلى جانب القدس والمستوطنات".
وعن المصير الّذي ستؤول إليه السلطة، قال: "إسرائيل والأطراف الدوليّة لا تريدان انهيار السلطة، بل إضعافها، وهذا سيتمّ من خلال تفعيل الإدارة المدنيّة الإسرائيليّة، الّتي ستمارس ضغوطاً على رؤساء البلديّات الفلسطينيّة لإجبارهم على التّواصل معها بالضغط عليهم بقطع الخدمات، الأمر الّذي سيحوّل السلطة إلى كيان غير فاعل".
ومن جهتها، قالت القياديّة في حركة "حماس" بالضفّة سميرة الحلايقة خلال حديث مع "المونيتور": "إنّ الهبّة الشعبيّة لم تخفت، وإنّما تتغيّر من شكل إلى آخر، وهي مستمرّة في القرى والبلدات والمخيّمات، الّتي تتصدّى ليلاً لاقتحامات جيش الإحتلال شبه اليوميّة".
أضافت: "حسب قراءتنا، فإنّ الهبّة تحوّلت من المواجهة على نقاط التّماس والحواجز، إلى التصدّي للجيش الإسرائيليّ في كلّ منطقة يقتحمها، وهو ما يبقي المواطنين في احتكاك مباشر مع الإحتلال، إلى جانب تنفيذ عمليّات بين الحين والآخر".
وأخيراً، إنّ تراجع الهبّة الشعبيّة على الأرض لا يعني موتها في شكل نهائيّ، لأنّ العوامل الّتي أدّت إلى اندلاعها لا تزال قائمة، الأمر الّذي يجعلها بمثابة النار تحت الرماد، والّتي قد تشتعل مع أيّ نسمة هواء قد تمرّ عليها، ولكن من الصعب أن تتطوّر إلى هبّة شعبيّة عارمة أو إنتفاضة شاملة، بسبب غياب الكثير من المتطلّبات الّتي تحتاج إليها.