منذ اندلاع الموجة الحاليّة من انتفاضة القدس في تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي، لم تعرف هجماتها ضدّ الإسرائيليّين وتيرة واحدة، بل كانت ترتفع وتنخفض بين حين وآخر، وبلغ عددها حتّى أوائل آذار/مارس 620 هجمة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة والقدس، أسفرت عن مقتل 33 إسرائيليّاً مقابل 209 قتيلاً فلسطينيّاً.
وشكّلت عمليّة تلّ أبيب الأخيرة في 8 حزيران/يونيو ذروة الهجمات الفلسطينيّة المسلّحة الأكثر قسوة على الإسرائيليّين، لأنّها جاءت داخل مركز تجاريّ في قلب مدينة تلّ أبيب، على مسافة قصيرة من مقرّ وزارة الدفاع الإسرائيليّة، وتمكّن منفّذاها أبناء العمّ محمّد وموسى مخامرة من مدينة يطا في محافظة الخليل من اجتياز الإجراءات الأمنيّة والحواجز العسكريّة الإسرائيليّة، وكانت حصيلة العمليّة مقتل 4 إسرائيليّين وإصابة 6 آخرين.
وعلى الفور، قرّرت الحكومة الإسرائيليّة في 9 حزيران/يونيو سلسلة عقوبات جماعيّة ضدّ فلسطينيّي مدينة يطا، مسقط رأس المنفّذين، أهمّها: فرض طوق كامل عليها، وسحب تصاريح العمل من أفراد عائلة منفّذي العمليّة، وإلغاء 83 ألف تصريح أصدرتها إسرائيل لفلسطينيّي الضفّة الغربيّة لدخولهم خلال شهر رمضان للصلاة في المسجد الأقصى، من مدينة يطا وغيرها من المدن الفلسطينية.
وفي هذا السياق، قال القياديّ في المبادرة الوطنيّة الفلسطينيّة وأحد الشخصيّات الاعتباريّة في مدينة يطا عثمان أبو صبحة لـ"المونيتور": "إنّ الإجراءات الإسرائيليّة ضدّ المدينة تمثّلت بإغلاقات غير مسبوقة لجميع مداخل يطا عبر السواتر الترابية وإقامة الحواجز العسكرية، وحصار لم تعشه حتّى في ذروة أحداث إنتفاضة الأقصى، وهذه المعاناة الكبيرة لسكّان المدينة تعبير عن نهج إسرائيليّ انتقاميّ منهم لمعاقبة المدينة الّتي خرج منها منفّذا العمليّة، وما زال الحصار متواصلاً حتّى اللّحظة منذ تنفيذ العمليّة، وترك الكثير من المعاناة والخسائر الفادحة في إقتصاد المدينة، لأنّها تضمّ الكثير من المعامل والمصانع والمتاجر، ويعرقل الإغلاق دخول البضائع وخروجها، ناهيك عن عرقلة خروج الحالات الإنسانيّة منها ودخولها حتى كتابة هذه السطور".
وفور وقوع عمليّة تلّ أبيب، اعتبرت حركات "حماس" والجهاد الإسلاميّ والجبهة الشعبيّة في بيانات منفصلة يوم 9 حزيران/يونيو، أنّها ردّ طبيعيّ على الجرائم الإسرائيليّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وأكّدت أنّ إنتفاضة القدس مستمرّة، ولم تتوقّف من جرّاء الإعتقالات الإسرائيليّة، وتمثّل نقلة نوعيّة في الفعل الانتفاضيّ، ورأت "فتح" في اليوم ذاته أنّ العمليّة ردّ فعل فرديّ وتلقائيّ طبيعيّ لواقع خيار القوّة، الّذي تتبنّاه إسرائيل.
أمّا رئاسة السلطة الفلسطينيّة فأكّدت في 9 حزيران/يونيو رفضها للعمليّات الّتي تطال المدنيّين من أيّ جهة كانت، ومهما كانت المبرّرات، داعية إلى عدم اللّجوء للعنف أو القيام بأيّ أعمال من شأنها زيادة الإحتقان والتوتّر.
وخرجت ردود فعل إسرائيليّة في اليوم ذاته، تطالب بسنّ قانون لتهجير ذوي منفّذي العمليّات من مناطق سكناهم في الضفة الغربية إلى قطاع غزة، وقيام إسرائيل بعلاج جذريّ لا ينساه الفلسطينيّون، وتطبيق إجراءات أمنيّة ترتكز على القصاص القاسي، يبقى محفوراً في أذهان الفلسطينيّين.
ومن جهتها، قالت عضو المجلس التشريعيّ عن "حماس" من مدينة الخليل سميرة الحلايقة لـ"المونيتور": "إنّ إسرائيل لا تنتظر ذرائع لفرض عقوبات على الفلسطينيّين، كما حصل عقب عمليّة تلّ أبيب الأخيرة، لأنّ الإحتلال هو السبب الرئيس في استمرار هذه الإنتهاكات ضدّ الفلسطينيّين، قبل العمليّة وبعدها، ولا يجب الإلتفات لما يقال إنّ العمليّة استهدفت مدنيّين إسرائيليّين، وليس عسكريّين أو مستوطنين، لأنّها عمليّة محقّة، وهي ردّ طبيعيّ على الإحتلال الإسرائيليّ".
شهدت الأيّام الماضية نقاشات فلسطينيّة حول عمليّة تلّ أبيب، بين من رأى أنّها قد تعمل على تحويل الموجة الإنتفاضيّة الحاليّة إلى عمليّات مسلّحة تؤسّس لمرحلة تالية، ولا بدّ من تطوير الإسناد الإعلاميّ واستعادة الدور المركزيّ للعمل المقاوم، ومن اعتبر أنّ العمليّة تعيد مجدّداً الجدل القديم الجديد حول استهداف المدنيّين الإسرائيليّين، خشية تقديم ذرائع إلى إسرائيل بأنّ الفلسطينيّين يمارسون عنفاً مداناً، وليس مقاومة مشروعة.
وفي هذا المجال، قال وزير فلسطينيّ رفض كشف هويّته لـ"المونيتور": "إنّ المقاومة الفلسطينيّة حقّ مشروع لا خلاف عليه، لكنّ عمليّة تلّ أبيب جاءت في وقت حرج متزامنة مع بعض العمليّات الإرهابيّة الّتي شهدتها مدن عالميّة، ومنها اسطنبول في أوائل حزيران/يونيو، وأسفرت عن مقتل 11 تركيّاً، ممّا قد يمنح إسرائيل فرصة المساواة بين المقاومة الفلسطينيّة والإرهاب الّذي يرفضه العالم".
ويمكن الإشارة إلى أنّ عمليّة تلّ أبيب وقعت بعد يومين فقط من دخول شهر رمضان، وقد سبق قدومه صدور تحذيرات إسرائيليّة في أوائل أيّار/مايو من تصعيد فلسطينيّ في الهجمات ضدّ الإسرائيليّين، ممّا دفع إلى نشر المزيد من القوّات الإسرائيليّة في مناطق الضفّة الغربيّة، تحسّباً لمزيد من العمليّات.
مع العلم أنّ التقديرات الإسرائيليّة حول عمليّة تلّ أبيب تشير إلى أنّها هجمة فرديّة نفّذها اثنان من أبناء العمّ الفلسطينيّين من مدينة يطا، ولا يقف خلفهما تنظيم فلسطينيّ معيّن، رغم أنّهما معروفان بتأييدهما لـ"حماس"، حتّى أنّ "حماس" ذاتها حين باركت العمليّة لم تعلن مسؤوليّتها الرسميّة عنها.
وأوضح مدير المركز الفلسطينيّ لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجيّة - مسارات هاني المصري لـ"المونيتور" أنّ "عمليّة تلّ أبيب تؤكّد أنّ زيادة العمليّات الفرديّة الفلسطينية تستدعي بحث أسبابها ودوافعها، وليس المسارعة إلى رفضها أو إدانتها أو تأييدها. كما يمكن الجمع بين أشكال النضال السلميّة والمسلّحة، ولا بدّ من التوقّف عند استهداف المدنيّين في إسرائيل، كي تكون المقاومة الفلسطينيّة مدروسة وليست عشوائيّة، ولا تستهدف الأطفال والأماكن العامّة، وتتناسب مع عدالة القضيّة الفلسطينيّة وتفوّقها الأخلاقيّ، لأنّ هناك مليوناً ونصف مليون فلسطينيّ يحملون الجنسيّة الإسرائيليّة، ويهودًا يرفضون المشروع الصهيونيّ".
وأخيراً، ما زالت تبعات عمليّة تلّ أبيب تتفاعل بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين مع استمرار الحصار المفروض على مدينة يطا مسقط رأس منفّذي العمليّة، ومواصلة إسرائيل بالتّعاون مع الأجهزة الأمنيّة التابعة للسلطة الفلسطينيّة، في اعتقالاتها بين صفوف الفلسطينيّين بالضفّة الغربيّة، الّذين تدور حولهم شبهات التخطيط لتنفيذ هجمات مسلّحة ضدّ إسرائيل، ممّا يعني أنّ صفحة عمليّة تلّ أبيب لم يتمّ طيّها بعد حتّى كتابة هذه السطور.