الضفّة الغربيّة- أريحا: كانت تحلم بتعميد ابنها في المكان الذي تعمّد فيه المسيح في نهر الأردن، إلّا أنّ الظروف الأمنيّة في حينها، منعتها عندما رزقت بطفليها الأوّل والثاني ( كان المغطس مغلق أمام الحجاج المسيحيين من الخارج والداخل من قبل سلطات وهو ما منعها من الوصول)، ولكن مع طفلها الثالث عيسى، نذرت مرح خليل (38 عاماً)، وهي سيّدة مسيحيّة من مدينة نابلس في شمال الضفّة الغربيّة، على تعميده في المغطس.
والمغطس هو موقع دينيّ مسيحيّ مقدّس يقع في نهر الأردن بالقرب من مدينة أريحا الفلسطينيّة، حيث المياه التي تعمّد فيها السيّد المسيح عليه السلام، على يدّ القدّيس يوحنّا المعمدان، كما جاء في الأناجيل المختلفة.
وقالت خليل لـ"المونيتور"، وهي من طائفة اللاتين إنّها اعتادت على تعميد أبنائها في عمر مبكر (ثلاثة أشهر)، ولكنّها ستأخّر تعميد عيسى حتّى موعد عيد الغطاس، للحصول على بركة المكان الذي يعتبر من أقدس الأماكن بالنسبة إلى المسيحيّين. وأضافت: "كلّ مسيحيّي العالم يتمنّون تعميد أبنائهم في هذا المقدّس، ونحن أهل البلاد أولى أن نحصل على هذه البركة والمتعة الروحانيّة بزيارة المكان، يكفي أن نتخيّل أنّ المسيح كان هنا يوماً ما".
وتنوي خليل زيارة المغطس في عيد الغطاس المقبل، في السادس من كانون ثاني، والذي يعتبر من الأعياد الرئيسيّة للمسيحيّين، والذي يلي عيدي الميلاد المجيد ورأس السنة الميلاديّة.
وفي نفس كلّ المسيحيّين في فلسطين والعالم، مكانة روحانيّة كبيرة لهذا المكان، كما يقول رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس الأب عطاالله حنّا، فإنّ هذه المياه مقدّسة وذات بركة على المؤمنين فهي المياه ذاتها التي تعمّد فيها المسيح ونقطة انتشار المسيحيّة إلى كلّ العالم.
وتابع في حديثه إلى "الموينتور": "كلّ الحجّاج من الكنائس حريصون على زيارة الموقع والتبرّك بالمياه المقدّسة فيه، ونكاد نجزم أنّ كلّ من يزور فلسطين من دون استثناء، يقوم بزيارة هذا الموقع".
وحول المكان وزيارته، يقول الأب حنّا إنّ هذه المنطقة أغلقت إسرائيل في شكل كامل في عام 1967، وأخرج منها الرهبان بحجّة أنّها منطقة عسكريّة مغلقة، وبقي الدير مهجوراً من عام 1967 وحتّى عام 1985، حتّى بدأوا بالسماح للرهبان بالدخول مرّة واحدة في السنة في يوم عيد الغطاس، وفي عام 2011 فتحت إسرائيل المكان للجميع الحجاج المسيحيين والسياح.
وإلى جانب الأهميّة الدينيّة، يحتلّ المكان مكانة تاريخيّة كبيرة أيضاً، وهو ما جعله مكاناً ترفض إسرائيل تسليمه إلى الجانب الفلسطينيّ، على الرغم من كونه مكاناً أحتلته إسرائيل مع إحتلال الضفة في عام 1967، وهو ما يخالف الاتّفاقيّات الدوليّة. يوضح مسؤول مكتب وزارة السياحة في مدينة أريحا أياد حمدان هذه القيمة قائلاً: "المغطس هو المكان الذي يقع على نهر الأردن مباشرة وهو المكان الذي تعمّد فيه سيّدنا المسيح على يدّ يوحنّا المعمدان، ويحتوي على عدد من الكنائس والأديرة وضمنها كنائس هجّرت ومواقع تاريخيّة أخرى لا تزال مستخدمة وتعود إلى كنيسة الروم الأرثوذكس".
بنيت هذه الكنائس والأديرة كما يوضح حمدان، في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس على نهر الأردن في أكثر من مكان، ولكنّها في الأساس كنائس قائمة على الموقع الذي تعمّد فيه السيّد المسيح، وعلى بعد مئات الأمتار كنائس أخرى البعض منها مهجور والآخر مأهول بالنسّاك ورجال الدين، ويعود بناؤها إلى فترات مختلفة من القرن الخامس إلى القرن التاسع، وبعضها أعيد بناؤها في فترات الاحتلال.
وانتشرت هذه الكنائس في هذه المنطقة، امتداداً لحدود شرق جبال القدس الخليل وصولاً إلى بني نعيم في الخليل، وكلّها منطقة بريّة، ونشأ فيها عدد كبير من الأديرة الصحراويّة التي لجأ إليها الرهبان والنسّاك هرباً من البطش، وحماية لنشأة الدين المسيحيّ في ذلك الحين. ومن الأمثلة على الأديرة المأهولة حتّى الآن دير حجلة ودير مار سابا ودير القلط ودير الأربعين- القرنطل.
من جهّته، قال رئيس الهيئة الإسلاميّة-المسيحيّة لنصرة القدس والمقدّسات إنّ الموقع الغربيّ (الجانب الفلسطينيّ) هو المكان الذي تعمّد فيه المسيح، فهو الأقرب إلى مدينة أريحا، مشيراً إلى أنّ قيمة المكان الأكبر أنّه المكان الذي تعمّد فيه المسيح وانطلقت بعدها المسيحيّة إلى كلّ العالم.
نهر الأردن هو الحد الفاصل ما بين الأردن والضفة الغربية، أريحا تحديدا، وبعد إحتلال الضفة الغربية في العام 1967 سيطرت إسرائيل على المنطقة الفلسطينية منه وأعتبرت مناطق حدودية عسكرية، وبما يتعلق بمكان المغطس فإن هناك أختلاف في تحديد مكان تعمد المسيح بشكل دقيق هل هو الضفة الغربية من النهر " منطقة الضفة" أم الضفة الشرقية " الأردن".
حنا هناك يرجح أن تكون الضفة الغربية نظرا لأنها الأقرب إلى الجليل حين أتى المسيح.
وقال حنّا لـ"المونيتور" إنّ المكان كان وحتّى عام 2000 مكاناً أثريّاً، ولكن بعد زيارة الحجّ التي قام بها البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني إلى الأرض المقدّسة في 14 مارس 2000، وإعلانه الموقع مكاناً مقدّساً لحجّ المسيحيّين، تحوّل موقع المغطس إلى محجّ يأتيه الحجّاج المسيحيّون من كلّ مكان في العالم، حيث يزوره سنويّاً ما يزيد عن 300 ألف شخص.
وكانت لجنة التراث العالميّ، التابعة إلى منظّمة اليونسكو، قد وافقت في 3 تمّوز/يوليو 2015 على إدراج الشقّ الشرقيّ من هذا الموقع، والذي تشرف عليه الأردن على قائمة التراث العالميّ، تحت مسمّى "موقع المعموديّة"، فيما لا يزال الجزء الغربيّ تحت الاحتلال الإسرائيليّ، إلّا أنّ وزارة السياحة الفلسطينيّة تسعى إلى تسجيله أيضاً كموقع فلسطيني على لائحة التراث العالمي.
أشار مسؤول ملفّ التراث العالميّ في وزارة السياحة والآثار الدكتور أحمد الرجوب إلى أنّه تمّ تجهيز ملفّ بعد هذا التسجيل عن الموقع، لإدراجه (المنطقة الغربية من نهر الأردن بعد أن سجلت الأردن المنطقة الشرقية) ضمن القائمة التمهيديّة للائحة التراث العالميّ، وتمّ تسليمه إلى مركز التراث العالميّ لتتمّ إضافته إلى القائمة التمهيديّة الفلسطينيّة. وتابع الرجوب لـ"المونيتور": "في تمّوز/يوليو المقبل، سيتمّ التصويت على إدارج الموقع على اللائحة التمهيديّة ليصل عدد المواقع إلى 14 موقعاً".
وتحاول إسرائيل تسجيل المكان على لائحة التراث العالمي أيضاً تحت مسمّى "قصر اليهود" ، ويرفض حنّا هذه التسمية، مشيراً إلى أنّها تسمية قد تحمل دلالات سياسيّة غير صحيحة، ويقصد هنا محاولة إسرائيل إسقاط الرواية الدينية التوراتية على المكان وبالتالي أحقيتها بالمكان، فالاسم الدينيّ والتاريخيّ الصحيح هو "دير يوحنّا المعمدان" حيث تقع كنيسة يوحنّا المعمدان. ويعلق على ذلك الأب حنّا قائلاً: "نحن لا نرفض هذه التسمية فقط، وإنّما ندينها ونستنكرها، لأنّها تشوّه مكانة المكان وقدسيّته، فهو مكان مسيحيّ بامتياز، ونرفض استعمال أيّ مفردات أو مصطلحات تشوّش طابع قدسيّة هذه المنطقة".
وعلى الرغم من التعقيدات السياسيّة لهذا المكان، إلّا أنّ قيمته الروحانيّة والدينيّة تجعل زيارته حلم كلّ مسيحيّ في العالم، للتبرّك بالمياه التي لامست جسد المسيح يوماً والأرض التي مشى فوقها.