بين يومي السبت 16 والخميس 21 نيسان/أبريل 2016، قام وفد فرنسيّ كبير بزيارة حافلة إلى بيروت، ثمّ إربيل، ومن بعدها بيروت فدمشق، قبل أن يغادر إلى باريس من العاصمة اللبنانيّة. الجهّة المنظّمة هي جمعيّة فرنسيّة غير حكوميّة، تحمل اسم "كريدو"، وهي اختصار لما معناه "تنسيقيّة مسيحيّي الشرق في خطر". وهي حركة فرنسيّة نشأت منذ نحو أربعة أعوام، وتهتمّ بإقامة نشاطات واتّصالات سياسيّة ودوليّة، دفاعاً عن المسيحيّين في منطقة الشرق الأوسط.
وفي الزيارة الأولى لها إلى هذه المنطقة، حشدت "كريدو" عدداً كبيراً وشخصيّات لافتة، لتشكّل وفدها إلى البلدان الثلاثة، فكان في عداده ثلاثون شخصاً، بينهم سبعة برلمانيّين فرنسيّين، وثلاثة برلمانيّين أوروبيّين، إضافة إلى خمسة صحافيّين وثلاثة مسؤولين من منظّمات غير حكوميّة أوروبيّة أخرى، فضلاً عن 12 عضواً من "كريدو" نفسها، يتقدّمهم رئيسها المحاميّ الفرنسيّ من أصل لبنانيّ باتريك كرم. حصيلة اللقاءات التي قام بها الوفد بين بيروت وإربيل ودمشق كبيرة جدّاً.
أكثر من عشرين لقاء، مع مختلف القوى السياسيّة والمسؤولين الحكوميّين في العاصمة اللبنانيّة، إضافة إلى رئيس إقليم كردستان العراقيّ مسعود البارزاني وعدد من مسؤولي حكومة الإقليم نفسه، انتهاء بعدد كبير من المسؤولين المسيحيّين في البلدان الثلاثة، من كنسيّين وعلمانيّين ومسؤولين عن منظّمات غير حكوميّة أو هيئات إغاثة. وبين تلك المحطّات الكثيفة، التقى موقعنا الوفد مجتمعاً، كما بعض أعضائه، سائلاً عن سبب الزيارة، كما عن نتائجها.
قال رئيس "كريدو" المحامي كرم: "جئنا إلى هذه المنطقة، وفي أذهاننا أهداف واضحة ومحدّدة، أن نستكشف حقيقة الوضع على الأرض بالنسبة إلى المسيحيّين في هذه البلدان، والاطّلاع على حاجاتهم ومعاناتهم والمخاطر الوجوديّة التي يعيشونها، ومن ثمّ محاولة فهم كيفيّة مساعدة هذه الجماعات الوطنيّة الأصيلة، كي تصمد في الأوطان التي كانت مسقط رأس أسلافها منذ آلاف السنين، وأخيراً، محاولة البحث عن التأثيرات المحتملة لسياسات بلدنا فرنسا، على هذه الجماعات، سلباً أو إيجاباً. هذا ما سعينا إلى تحقيقه خلال الرحلة بكاملها، ومن خلال كلّ لقاءاتنا وحواراتنا".
أمّا عن الصورة التي كوّنها الوفد بعد جولته، يقول رئيس "التجمّع من أجل لبنان" وأحد أعضاء الوفد الدكتور إيلي حدّاد: "الواضح أنّ هناك مأساة تستدعي التحرّك والمعالجة لجهّة أوضاع مسيحيّي الشرق. في العراق، يبدو أنّ هذه الجماعة تتّجه نحو الزوال الكامل. فمن أصل أكثر من مليوني مسيحيّ عراقيّ كانوا يعيشون في بلادهم قبل الحروب العراقيّة الأخيرة، لم يعد هناك إلّا نحو 350 ألفاً موزّعين بين بغداد وإقليم كردستان. وغالبيّة المسيحيّين الذين التقيناهم في إربيل، يعربون عن ميلهم نحو هجرة بلادهم نهائيّاً. في سوريا، الوضع كارثيّ في ظلّ الحرب الدائرة، ونزيف الهجرة مستمرّ. في لبنان، الجماعة المسيحيّة لا تزال تملك كلّ مقوّمات وجودها، غير أنّ صعوبات كثيرة تعترضها، ليس أقلّها محاولة فرض رئيس للجمهوريّة لا يمثّل المسيحيّين، والأمر نفسه بالنسبة إلى انتخاب هؤلاء نوّابهم. فيفرض عليهم قانون للانتخاب لا يراعي صحّة أصواتهم وإرادتهم. وأكثر من ذلك، حرموا من الانتخابات النيابيّة بعدما تمكّنت القوى اللبنانيّة الأخرى من التمديد للبرلمان".
أمّا عن العلاقة بين زيارة الوفد والسياسة الفرنسيّة في المنطقة، فيشرح حدّاد: "إنّ "كريدو" منظّمة غير حكوميّة، كذلك المنظّمات الأخرى المشاركة في الوفد، ولذلك لا يمكن أن نقول إنّنا نقوم بأيّ خطوة من أجل أجندة سياسيّة معيّنة. وهذا ما حرصنا عليه بالكامل في تشكيل الوفد، حيث ضمّ برلمانيّين من مختلف القوى السياسيّة الفرنسيّة، من موالاة ومعارضة. أكثر من ذلك، حرصنا أيضاً ضمن جدول زيارتنا، ألّا نلتقي أيّ مسؤول حكوميّ أو سياسيّ في سوريا، على عكس لقاءاتنا في إربيل وبيروت، إذ اقتصر جدول لقاءاتنا في سوريا على عدد من البطاركة والأساقفة، إضافة إلى لقاء مفتي سوريا (السنّي) الشيخ أحمد حسون، فضلاً عن ذهابنا إلى زيارة القرى المسيحيّة التاريخيّة قرب دمشق في صيدنايا ومعلولا، والاجتماع بسكّانها الصامدين من المسيحيّين. وذلك من أجل أن نتجنّب أيّ محاولة لتصنيفنا أنّنا مع طرف ضدّ آخر في الحرب السوريّة الدائرة، بدافع حرصنا الشديد على حيادنا، وبالتالي صدقيّة الصورة التي نسعى إلى تكوينها ونقلها إلى باريس".
غير أنّ رئيس "كريدو" المحامي كرم، لا يخفي مفاجأته ممّا سمعه من المسيحيّين، علمانيّين وكنسيّين في دمشق. يقول إنّ "أعضاء الوفد سمعوا من المسيحيّين السوريّين تأييداً واضحاً للحكم في دمشق. إنّهم يعتبرون أنّ هذا الحكم يحمي وجودهم في بلادهم، فيما المعارضون له من حركات إسلاميّة أصوليّة تشكّل بحسب رأيهم خطراً أكيداً على حياتهم كأفراد وعلى وجودهم كجماعة في وطنهم. حتّى أنّ هؤلاء لا يخفون تأييدهم الرئيس السوريّ بشّار الأسد، وتأكيدهم أنّ شعبيّة الأسد قد ازدادات لديهم كما لدى الغالبيّة في سوريا، بحسب رأيهم، بعد الحرب المستمرّة منذ خمسة أعوام، وخصوصاً بعد سيطرة الجماعات الإرهابيّة على المعارضات السوريّة".
ويضيف حدّاد: "أكثر من ذلك، سمعنا انتقادات واضحة وصريحة من مسيحيّي سوريا خصوصاً، لسياسات الحكومات الأوروبيّة، وتحديداً السياسة الفرنسيّة. قالوا لنا بوضوح إنّهم يتوقّعون منّا كأوروبيّين مساعدتهم للبقاء والصمود في أرضهم، لا مساعدة الإرهابيّين وتسهيل هجرة المسيحيّين من أوطانهم الأصليّة إلى البلدان الغربيّة". ويتابع حدّاد: "الأمر نفسه سمعناه من مفتي سوريا السنّي، لجهّة تأييده الأسد. وهو ما كان مفاجئاً، خصوصاً للبرلمانيّين ضمن الوفد. وهو ما لا بدّ من أنّهم سينقلونه إلى الأحزاب التي يمثّلونها في فرنسا".
منذ بداية الأحداث في سوريا قبل خمسة أعوام، إنّه الوفد الفرنسيّ الرابع عشر الذي يزور دمشق. لكنّها المرّة الأولى التي يأتي وفد برلمانيّ سياسيّ فرنسيّ، تحت عنوان التضامن مع مسيحيّي الشرق المهدّدين في وجودهم. خطوة قد تكون مؤشّراً إلى بداية مقاربة جديدة للأحداث الدائرة في المنطقة. ذلك أن أعضاء الوفد الذين التقيناهم يتحدثون صراحة عن نيتهم تشكيل "لوبي لبناني أو مسيحي شرقي" في باريس، يتولى الاتصال بالسلطات الفرنسية، ومحاولة التأثير عليها لجهة سياساتها حيال المنطقة. خصوصاً بعد الآراء الواضحة التي سمعها أعضاء الوفد من مسيحيي سوريا ولبنان، والتي رأت أن سياسة فرنسا حيالهم تأخذ في الاعتبار مصالحها الاقتصادية مع دول النفط الخليجية، على حساب مصلحة المسيحيين في هذه الدول.