قام النّظام السياسيّ العراقيّ الحاليّ على أسس التّقسيم الطائفيّ، فتجسّد في ثلاثة تحالفات كبرى: الشيعة، والعرب السنّة، والأكراد، إلاّ أنّ هذه التّحالفات الطائفيّة الّتي فكّكت المجتمع العراقيّ في خلافاتها السياسيّة، لم تستطع نفسها النجاة من التصدّع الداخليّ. ويعدّ التّحالف الشيعيّ أقوى هذه التّحالفات بوصفه يمثّل الأكثريّة السكانيّة، إلاّ أنّه لم ينج هو الآخر من التصدّع والخلافات. لقد عبّرت الأحزاب والتيّارات الشيعيّة عن نفسها في البرلمان تحت اسم التّحالف الوطنيّ العراقيّ، الّذي صمد بفعل التّماسك الطائفيّ القائم على المخاوف من الآخرين. بيد أنّ هذا التّماسك راح يتحلّل بعد الأزمة الإقتصاديّة وظهور مطالب الإصلاح، الّتي بدأت بسلسلة من التّظاهرات الشعبيّة منذ تمّوز/يوليو من العام الماضي باشرتها التيّارات المدنيّة وأسهم فيها لاحقاً بقوّة التيّار الصدريّ.
وقد عمّ الخلاف قوى شيعيّة أخرى تمثّلت بالمرجعيّة الدينيّة في النّجف، الّتي اعترضت على الآداء الحكوميّ وعلى السلوك السياسيّ للأحزاب الشيعيّة والفساد المستشري. والحال، أنّ الأحزاب الشيعيّة كان لها الدور الأكبر في حكومات ما بعد عام 2003، ثمّ تحمّلت مسؤوليّة أكبر في الفشل والفساد، وباتت موضوع نقد متزايد من المجتمع. ونتيجة لذلك، اجتمع قادة الأحزاب والتيّارات الشيعيّة الكبرى في مدينة كربلاء بـالسابع من آذار/مارس عام 2016 لحلحلة الخلافات، الّتي توسّعت لتشمل المطالبة بتغيير رئيس الوزراء أو الإحتكام إلى الشارع، حسبما هدّد به مقتدى الصدر، معترضاً على حزب الدعوة صاحب القسط الأكبر في الحكومة والبرلمان. ثمّ وصلت الخلافات إلى مرحلة عجزت فيها المرجعيّة الشيعيّة عن حلحلتها، بل إنّها تخلّت حتّى عن دور الناصح.
والمعروف أنّ للمرجعية الدور الأكبر في تقريب وجهات النّظر بين الأحزاب الشيعيّة منذ بداية العمليّة السياسيّة في العراق بعد عام 2003، ومثّلت بيضة القبّان في تأسيس تحالف بين الأحزاب الشيعيّة قبيل إنتخابات عام 2005، إذ باركته ممّا أدّى إلى توحيد أصوات الشيعة لمصلحة هذا التّحالف السياسيّ. وبعد عقد كامل، انتهت المرجعيّة نفسها إلى انتقاد الأحزاب الشيعيّة المشاركة في التّحالف بأقصى العبارات الحادّة. ففي خطبته ليوم الجمعة في 22 كانون الثاني/يناير الماضي، عدّ المتحدّث باسم المرجع الشيعيّ الأعلى السيّد علي السيستاني أنّ الحكومات المتعاقبة على العراق (ذات الأغلبيّة الشيعيّة) قد أهدرت الأموال بما هدّد بانهيار البلد، ولم تستمع إلى نصائح المرجعيّة.
وخطت المرجعيّة خطوة أخرى، ففي الخامس من فبراير/شباط الماضي، قرّرت الصمت إزاء الوضع السياسيّ العام في البلد الّذي وصفته بالخطر، لأنّها لا ترى فائدة من تكرار توجيهاتها الّتي لم تتّخذها الأحزاب الشيعيّة على محمل الجدّ.
وعلى مستوى الأحزاب والتيّارات الشيعيّة نفسها، تجاوزت الخلافات الأروقة السياسيّة وبلغت الشارع، بل تجاوزت اللّغة الديبلوماسيّة إلى لغة التهديد المباشر. فقد دعا السيّد مقتدى الصدر إلى اعتصامات واسعة أمام المنطقة الخضراء، احتجاجاً على الفساد والآداء الحكوميّ، محرجاً منافسيه الشيعة داخل التّحالف الوطنيّ. وهذه الاعتصامات بدأت بالفعل منذ 18 آذار/مارس، لتتوسّع هي الأخرى. ففي تطوّر لافت، هدّد مقتدى الصدر باقتحام المنطقة الخضراء في حال عدم استجابة الحكومة إلى مطالبهم الإصلاحيّة بتعيين حكومة تكنوقراط، بدل الحكومة الحاليّة.
في المقابل، أصدر إئتلاف دولة القانون، الّذي يشكّل الأغلبيّة ضمن التّحالف الشيعيّ، بياناً شديد اللّهجة في 16 آذار/مارس عدّ خطوات الصدر في الدعوة إلى الإعتصام غير قانونيّة ومعارضة للدستور، منهياً البيان بعبارات تهديديّة: "وأنّ السلاح يقابله سلاح، والرجال يقابلهم رجال، ويبقى دافع الثمن هو الشعب والبلد، وبالذات المناطق الّتي لم تتمكّن عصابات داعش من تخريبها بعدوان. الاحتكام إلى الشارع خطأ ينتهي بتدمير البلد والمجتمع".
وفي كلمة لرئيس دولة القانون نوري المالكي في النجف في 26 مارس، اعتبر الاخير أن الاعتصام الجاري امام المنطقة الخضراء مخالفا للدستور العراقي. وقد قارن المالكي في حديثه بين الاعتصامات الصدرية وتجربة الاعتصامات السابقة في المناطق السنية والتي أدت الى دخول داعش في نهاية الأمر: "لقد اخترق الأغراب نسيجنا في السابق ... وبدأت حركة الاعتصامات في الرمادي واعتقدوا أنهم وجدوا بساطا من حرير، لكن بدعم المرجعية والعشائر أوقفنا من يريد إسقاط بغداد والنجف، فانها (الاعتصامات) كانت خدعة". وحذر المالكي من سناريو تقسيم العراق والحروب الاهلية التي ستتبعه في حال تحققه في مرحلة ما بعد داعش. وكان قد أبدى المالكي مخاوف مشابهة في بيان ائتلاف دولة القانون الذي اشير اليه سابقا والذي تلاه بنفسه: "التحدي الذي تحرك في الأيام الأخيرة (الاعتصامات للصدريين) كان صارخا في ضرب أسس الأمن الوطني وأسس العملية السياسية وجعل الجميع يحبس أنفاسه خوفا من انفلات الأوضاع الأمنية، ولن يستطيع احد مهما تصور قوته وحضوره السيطرة على الأوضاع المتداعية التي يستغلها أعداؤنا جميعا".
وإزاء هذا، لم تستطع إيران الّتي كان لها دور بارز في حفظ تماسك التّحالف الشيعيّ والمنع من تصدّعه سابقاً في مناسبات عدّة، أن تقوم بتقريب وجهات النّظر والحدّ من الخلافات الواسعة بين الأطراف الشيعيّة هذه المرّة. ونشرت جريدة "الحياة" اللندنيّة تقريراً عن زيارة الجنرال الإيرانيّ قاسم سليماني لمقتدى الصدر في النّجف، بعد أن رفض الأخير الذهاب إلى بغداد للقائه. ولقد تأكّد "المونيتور" من أحد مستشاري مقتدى الصدر في النّجف تحفّظ عن ذكر اسمه، من حصول هذا اللّقاء في الأسبوع الثالث من بدء مظاهرات الصدريّين، الّتي بدأت في 4 آذار/مارس. وأشار المصدر إلى أنّ اللّقاء لم ينته إلى نتيجة، إذ غادره الصدر بعد أن رفض طلب سليماني التفاهم مع قادة الأحزاب الشيعيّة الآخرين ضمن التّحالف، والإصرار على موقفه في تشكيل حكومة تكنوقراط تطيح بمعظم شخصيّات الحكومة الحاليّة. وفي تطوّر مثير، أنّ مقتدى الصدر شخصيّاً بات يعتصم في خيمة مع مجموعة من مؤيّديه داخل المنطقة الخضراء.
وقد اجتمعت الهيئة السياسية لائتلاف دولة القانون في 30 من مارس في بغداد ليتخذوا القرار بتغيير شامل في الحكومة يشمل رئيس الوزراء حيدر العبادي نفسه ايضا. ولكن العبادي الذي لم يحضر الاجتماع كان يحضر لمفاجاة اكبر اعلنها يوم 31 من مارس بتسميته تشكيلة وزارية جديدة لم تبق من التشكيلة الحالية سوى وزيري الدفاع والداخلية. ويعد جميع الشخصيات المقترحة الاربعة عشر من الشخصيات غير المنتمية للكتل السياسية وضمن عنوان التكنوقراط. واثر ذلك، طالب الصدر مؤيدية بفض الاعتصامات. ولكن ما زالت الاجواء محمومة ومستعدة لانفجار مجدد، من حيث ان البرلمان لم يؤيد بعد الكابينة الجديدة ولم يعرف بعد ان كيف ستواجه الكتل السياسية الخاسرة لوزراءها في الحكومة مع مبادرة العبادي.
ويظهر من هذا كلّه، أنّ التّحالف الشيعيّ فقد ديناميّاته السياسيّة لحلّ الخلافات، فباتت القوى الشيعيّة تنقل صراعاتها إلى خارج البيت الشيعيّ. كما عجزت القوى التقليديّة مثل المرجعيّة وإيران عن التوسّط ولملمة الخلاف على أسس طائفيّة مشتركة.