بيروت - بعد ثمانية أشهر على غرق المناطق والشوارع اللبنانيّة بالنفايات جرّاء انتهاء عقد "سوكلين"، الشركة الخاصّة الّتي كانت تتولّى إدارة نفايات بيروت وجبل لبنان ومعالجتها، وعقب إغلاق مطمر الناعمة أيضاً الّذي كان يستوعب نفايات كلّ لبنان في تموز 2015، بعد حملة أطلقها أهالي الناعمة وشملت سلسلة اعتصامات وقطع طرقات لإقفاله تطبيقاً للقرار الصادر عن مجلس الوزراء في تمّوز/يوليو 2014، ولوقف الأذى الصحّي الذي يطال أهالي المنطقة بسبب المطمر، وبعد سلسلة من التحرّكات الشعبيّة قادها المجتمع المدنيّ، وفي مقدّمته حملتا "طلعت ريحتكم" و"بدنا نحاسب" اللتان نشأتا إثر هذه الأزمة، إلى جانب عدد كبير من الجمعيّات البيئيّة، وبعد سلسلة اجتماعات للحكومة اللبنانيّة واللجنة الوزاريّة التي شكّلتها وكلّفتها متابعة الملّف... ها هي الحكومة تقرّ خطّة لحلّ الأزمة تقوم على أساس الطمر، ، وبدأت إزالة النفايات في 19 آذار.
هذا الحلّ تمثّل في إنشاء ثلاثة مطامر ضمن مرحلة انتقاليّة تمتدّ لأربع سنوات يتمّ خلالها وضع خطّة للحلّ المستدام وتطبيقها، وذلك في مكبّ برج حمّود الذي كان أغلق في عام 1997، وفي مكبّ الكوستا برافا في خلدة، وإعادة فتح مطمر الناعمة لشهرين لاستيعاب عشرات آلاف الأطنان المتراكمة حاليّاً، إضافة إلى إنشاء مطمرين إضافيّين لم تحدّد مواقعهما بعد. وقد طلب رئيس الحكومة تطبيق خطة حل النفايات بمواكبة القوى الأمنيّة في ظل رفض الحراك المدني لها واعلانه مواصلة تحركاته معتبرا انها ليست أفضل الحلول المتاحة وبعدما كان عرض خطة بديلة للمعالجة في ايلول 2015 تقوم على محورين هما: معالجة الإنتاج اليومي من النفايات عبر تكريس مبدأ الفرز من المصدر واعطاء الاموال للبلديات، ومعالجة المخزون المتراكم من النفايات عبر تقنية التخمير الهوائي .
لفت وزير البيئة محمّد المشنوق في حديث إلى موقع "المونيتور" أنّ "تحديد الضرر البيئيّ لانتشار النفايات يتطلّب دراسة مفصّلة، خصوصاً أنّ عدد المكبّات العشوائيّة ارتفع بعد أزمة النفايات من 760 إلى 800 مكبّ في كلّ لبنان، قائلاً: "كلّ شيء قابل للمعالجة بشرط أن نسرع في وضع الحلول قيد التنفيذ، فقد مضت أشهر على اقتراحنا عشرات الحلول التي كانت مع الأسف تتوقّف في السياسة". علما ان حلولا عدة كانت عُرضت في فترة سابقة ابرزها هو ترحيل النفايات الى خارج لبنان والذي اقرته الحكومة الا انه سقط بعدما احاطت به عقبات وحديثٌ عن صفقات مالية وفضائح وتزوير في المستندات التي قدمتها شركة "شينوك" التي كُلفت بالترحيل، علما ان عددا من القوى السياسية كانت رفضت الترحيل اصلا وابرزها "تكتل التغيير والاصلاح" بسبب ارتفاع كلفته وباعتبار انه ليس الحل الامثل.
المشنوق الذي استغرب رفض حلّ المطامر الصحيّة المتّبع في كلّ دول العالم، شدّد على أنّ "إقامة مطمر في الكوستا برافا أو برج حمود لا تتعارض مع اتّفاقية برشلونة ولن تؤذي البحر، كما يشيّع البعض، لأنّ الدولة ستقيم سنسولاً لمنع تسرّب النفايات إلى البحر".
"تسرّب عصارة النفايات إلى التربة والمياه الجوفيّة ومادّة الديوكسين الناتجة عن حرق النفايات يعدّان أكبر خطرين يتعرّض إليهما اللبنانيّون نتيجة أزمة النفايات"، كما أكّد رئيس الحركة البيئيّة اللبنانيّة الناشطة ضمن الحراك المدنيّ بول أبي راشد لموقعنا. وهو لم ينف "إمكان معالجة الضرر الذي وقع خلال الأشهر الثمانية المنصرمة، إن سريعاً بتنظيف المواقع حيث تمّ تجميع النفايات، أم على المدى البعيد حيث تعيد الطبيعة تنظيف نفسها بعد فترة زمنيّة لا سيّما على مستوى المياه الجوفيّة".
إلّا أنّ "الحلّ الذي أقرّته الحكومة اللبنانيّة غير مقبول ويؤشّر، بحسب أبي راشد، إلى "صفقة تجاريّة يسعى إليها أعضاء في الحكومة عبر النفايات". وقال: "قصدت الحكومة إبقاء الأزمة ثمانية أشهر لترويض الناس واحتكار قطاع النفايات في كلّ لبنان للسنوات العشرين المقبلة على غرار ما حصل خلال الأعوام العشرين الماضية باحتكار القطاع في بيروت وجبل لبنان عبر شركة سوكلين". وأضاف أنّ "المطامر المنوي إقامتها على البحر مخالفة لاتّفاقية برشلونة، وتكشف نوايا احتياليّة لا سيّما أنّ التسوية ستفضي إلى تمليك البلديّات الأراضي المنوي ردمها في البحر لإقامة المطامر، وهي أراضٍ يمكن أن تكون بالنسبة إلى المستفيدين، صفقة تدرّ أموالاً طائلة في حال إعادة بيع هذه الأراضي على غرار ما حصل في بيروت". لكنّ في المقابل، "لا يملك الحراك المدنيّ أيّ خطّة واضحة حتّى اليوم لمواجهة حلّ الحكومة، قال أبي راشد، "لكنّ الأكيد أنّ لا استسلام في مواجهة مشروع تلويق أموال اللبنانيّين وسرقتها".
وشدّدت رئيسة دائرة الرصد الوبائيّ في وزارة الصحّة الدكتورة عاتكة برّي لـ"المونيتور" على أنّ "أزمة النفايات هي موضوع وطنيّ شامل، لكنّ الجانب الصحّي قد يكون الأخطر حيث لا تظهر نتائجه على المدى القريب، وما الكلام الحاليّ عن تكاثر الجراثيم إلّا نقطة في بحر ما ينتظرنا في حال استمرار الأزمة، حيث ستتجلّى بعد أعوام أمراضاً مزمنة خطيرة كالسرطان والقصور الكلويّ والكبديّ والألزهايمر، إضافة إلى التشوّهات بالأجنّة". وأشارت برّي إلى "أنّ خطر النفايات تراكميّ، لكنّ وزارة الصحّة لا تملك الإمكانات لقياس المؤشّر الأخطر للأزمة وهو مادّة الـديوكسين، الذي سجّل نسبة 2300% في دراسة أجرتها الجامعة الأميركيّة على عيّنة من الهواء أخذت في فترة حرق النفايات". لكنّ المطروح اليوم على مستوى وزارة الصحّة، تتابع برّي "ينحصر في إمكان التعاون مع الجامعة الأميركيّة لإرسال عيّنات من الهواء والتربة والمياه لفحص نسب مادّة الديوكسين فيها"، إضافة إلى "مشروع يجري العمل عليه لتدريب البلديّات على فرز النفايات وإنشاء معامل للفرز"، حسب قولها.
وشدّدت بري على أنّ أحداً لا يمكن أن يؤكّد اليوم أنّ لبنان دخل المحظور وقرع جرس الإنذار في أزمة النفايات"، مستندة في ذلك إلى "مقارنة أجرتها الوزارة لنسب الأمراض وعدد الفيروسات والجراثيم للفترة الممتدّة بين شهري أيلول/سبتمبر وتشرين الثاني/نوفمبر من عام 2015 والسنوات السبع السابقة، من دون تسجيل أيّ فارق ملفت ومع استنتاج أنّ النفايات قد تزيد نسبة بعض الجراثيم”، وذلك ردا على كل ما يُحكى من قبل الحراك المدني عن ان ازمة النفايات هي السبب وراء انتشار امراض وجراثيم عدة بين اللبنانيين. وأضافت أنّ "إجراءات وزارة الصحّة من شأنها أن تؤخّر الضرر، لكنّ الأساس يبقى في إزالة النفايات في أسرع وقت".
سياحيّاً، تركت أزمة النفايات بصماتها أيضاً. وقد "أدّت إلى تراجع الحجوز والمصاريف السياحيّة لصيف 2015 في شكل كبير"، كما أكّد وزير السياحة ميشال فرعون لـ"المونيتور، موضحاً أنّه "بعدما سجّل المصروف السياحيّ أعلى مستوياته في تمّوز/يوليو 2015، متخطّياً الرقم المسجّل في شهر تمّوز/يوليو 2014 بنسبة 50%، تراجع مع بدء أزمة النفايات وانطلاق التحرّكات في الشارع والتي أخذ بعضها طابعاً فوضويّاً بنسبة 35%". وقال فرعون إنّه "وحدها السياحة المحلّية وحركة المهرجانات الصيفيّة استمرّت من دون أن تواكبها حركة ناشطة للسيّاح الأجانب"، آملاً في "موسم واعد لصيف 2016، خصوصاً أنّ الحلّ لأزمة النفايات أصبح نافذاً".
تنظيف الشوارع والمناطق انطلق، إلّا أنّ عين الحراك المدنيّ ستبقى على الحكومة وسط ترقّب مدى التزامها بإيجاد حلول لهذا الملفّ على المدى الطويل وليس لأربع سنوات فقط.