لم تكن في سوريا خيارات واسعة من طرق الاتّصالات. فبعد وصول بشّار الأسد إلى السلطة في العام 2000 ورعايته ما أسماه "ثورة المعلوماتيّة"، ليقوم بإعطاء تراخيص لشركتي اتّصالات وحيدتين في سوريا هما سيرياتيل وMTN ، لتكون ملكيّة سيرياتيل لابن خالة الرئيس الحاليّ الأسد رامي مخلوف، في خطوة أبعد ما تكون عن الاشتراكيّة التي ينادي بها حزب البعث الحاكم في سوريا.
وبذلك، أصبح النظام متحكّماً بكامل الاتّصالات السوريّة ومتنصّتاً عليها، من الخطوط الأرضيّة إلى اللاسلكيّة، ليستخدم هذه السطوة بعد اندلاع الثورة من الشعب ضدّ النظام الحاكم في آذار/مارس 2011، ويبدأ بقطع الاتّصالات عن كلّ منطقة تخرج ضدّه أو منطقة يريد أن يدخلها الجيش لمنع تواصل السكّان والناشطين في ما بينهم.
يقول أبو محمّد (اسم مستعار)، وهو مقاتل سوريّ في الجيش السوريّ الحرّ في ريف مدينة حمص لـ"المونيتور": "لقد بدأنا باستخدام قبضات اللاسلكيّ منذ بداية عملنا العسكريّ، وقد استفدنا من خبرة الضبّاط في استخدامها سابقاً، وهي ذات فائدة عالية لدينا، فنستخدمها للتنسيق في ما بيننا والتواصل والتنبيه في حال وجود خطر، وخصوصاً في ظلّ انعدام وجود أيّ شبكات هاتف او اتّصالات".
يشرح المهندس سمير الراعي من مدينة حمص عبر السكايب لـ"المونيتور" عن آليّة عمل القبضات فيقول: "تعمل القبضات بنظام الراديوهات نفسه، حيث تتألّف من جهاز مركزيّ يعمل على إرسال الإشارات القصيرة المدى واستقبالها من القبضات على تردّدات مختلفة، ليعود ويرسلها مرّة أخرى. فمثلاً، يأتي النداء من القبضة رقم 1 على موجة ذات تردّد معيّن، فيتعرّف الجهاز المركزيّ على الموجة ويستقبل النداء عبر شبكة تكون مثبّتة على مكان مرتفع، فيعود الجهاز المركزيّ لإرسالها مجدّداً إلى القبضات كافّة التي تعمل على هذه الموجة، وهكذا يصل النداء إلى كلّ من يحمل قبضة".
في بداية عام 2014، ظهر شيء جديد على ساحة الاتّصالات في المناطق المعارضة ألا وهو المرصد، الذي يتألّف من جهاز القبضات نفسه، لكنّه ليس خاصّاً بمجموعة معيّنة وانما يتم استخدامه من قبل عدد غير محدود من المستخدمين من خلال ضبط القبضات على تردد ما، حيث كان بمبادرة فرديّة من أحد أبناء مدينة إدلب ويدعى أحمد علي المغلاج، وهو معارض لنظام الأسد ومتظاهر سلمي منذ بداية الثورة، حيث أنّه وضع شبكة على مكان مرتفع في جبل الزاوية في ريف مدينة إدلب لينشئ شبكة تغطّي المدينة وريفها في شكل كامل، وينشر تردّد الموجة للقبضات بين كلّ الفصائل ويطلق عليها اسم "الموجة العامّة"، ليقوم هو بالحديث طوال اليوم على القبضة، ويبثّ الأخبار وتحرّكات الجيش وتقدّمه في الجبهات وفق الأخبار التي تصله من المكاتب الاعلامية الخاصة بالفرق المقاتلة ومن تواصله مع الجبهات. وما تميّز به هذا المرصد أنّه كان يزوّد الفصائل بتحرّكات الطيران التابع للنظام، فيقوم بتحذير المقاتلين منه ليقوموا بأخذ حذرهم. التقى "المونيتور" في تركيا بكري كعكة الذي كان يشغل منصب اداري في الجيش السوريّ الحرّ وهو الان يشغل منصب سياسي في المعارضة، ليتحدّث عن هذا المرصد فقال: "كانت تجربة رائعة استفدنا منها كثيراً واستطعنا الحفاظ على حياة الكثيرين من خلالها، فكان المرصد يحذّرنا عند إقلاع الطائرات من مطار حماه في اتّجاهنا ليكون لدينا عشر دقائق نستطيع خلالها الاحتماء والاستعداد لهجوم محتمل أن تشنّه طائرات النظام. كما كان يشحذ همم المقاتلين ويرفع من معنويّاتهم من خلال أخبار التقدّم والانتصارات على الجبهات، كما أنّ له جانباً تقنيّاً يعمل على اختراق شبكات الاتّصال العسكريّة التابعة إلى النظام للتنصّت على اتّصالاته ومعرفة تحرّكات الطيران من مطاراته، ليقوم المرصد بتزويد الجيش السوريّ الحرّ بها لتفاديها والتحصّن ضدّها".
كانت التجربة التي بدأها هذا المرصد مثيرة للبعض الذين أخذوا يحذون حذوه، فكثرت المراصد وارتفعت الأبراج في مختلف المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، لتصبح المراصد كإذاعات الراديو لكنّها تغطّي مناطق معيّنة، وانتشرت قبضات اللاسلكيّ مع كثير من الناس من المدنيّين والباعة الجوّالين وكلّ من يرغب بمتابعة الأخبار والتواصل مع الناس.
ويقول الصحافيّ فراس العلي الذي يعمل في وكالة بلدي الإخباريّة من ريف حلب لـ"المونيتور" في لقاء عبر السكايب إنّ "معظم الإعلاميّين في الوكالات الإخباريّة أصبحوا يعتمدون في نقل الأخبار على المراصد، من أجل سرعة نقل الخبر ونشره ولانعدام وسائل التواصل في مناطق المعارك، وكذلك تجنّب الخطر الذي قد يؤدّي إلى الوفاة في حال استهدافهم أثناء تغطية المعارك، وهذا ما يعتمد عليه مراسلون في وكالة بلدي الإخباريّة، حيث يرسلون إلينا الأخبار اعتماداً على المراصد، خصوصاً إن كان هناك معركة مشتعلة في منطقة ما، لكن يحدث أحياناً أن يتسرّع أحدهم وينشر أخباراً قبل التأكّد منها نتيجة أخبار غير صحيحة من أحد المراصد، وتجنّباً لذلك، أصبحنا نعمل على حصر تردّدات اللاسلكيّات بأشخاص مهمّتهم نقل الأخبار ويتمتّعون بالمصداقيّة، وبأيّ حال، لا ننكر أنّ للمراصد دوراً أساسيّاً في نقل الأخبار الميدانيّة من ساحات المعارك، وحتّى الأخبار المدنيّة، فكثيراً ما نسمع نداءات للمدنيّين للتوجّه للحصول على مساعدات غذائيّة أو تعبئة مياه أو إنذار من عواصف جويّة مقبلة".
بعد بدء سلاح الطيران الروسيّ عمليّاته العسكريّة في سوريا إلى جانب النظام في 30 أيلول/سبتمبر 2015 واتّخاذه من مطار حميميم في اللاذقيّة قاعدة عسكريّة روسيّة له، أصبح هناك مشكلة جديدة تواجه المراصد ألا وهي اللغة. يقول مرصد أبو أحمد من مدينة حلب لـ"المونيتور" عبر الهاتف: "قبل التدخّل الروسيّ، كنّا نخترق أجهزة الاتّصال العسكريّة لدى النظام ونعرف وجهة الطيران الحربيّ لدى النظام وتوقيته. أمّا بعد التدخّل الروسيّ، بتنا نواجه مشكلة اللغة الروسيّة، لكنّنا أصبحنا نستعين بمترجمين من الروسيّ إ|لى العربيّ من الطلّاب الذين درسوا سابقاً في روسيا أو الضبّاط المنشقّين الذين خضعوا إلى معسكرات تدريبيّة في روسيا سابقاً".
أثناء وجودي شخصيّاً في إدلب في سوريا، أحمل معي قبضة لاسلكيّ تتبع للمراصد العامّة لأستمع إلى تطوّرات الأحداث وتحرّكات قوّات الجيش السوريّ الحرّ وجيش النظام، لأعرف أيّ مناطق تحدث فيها معارك. فكنت في بعض الأحيان أستمع إلى أحاديث المدنيّين مع بعضهم، فتسمع من يبحث عن ابنه عن طريق المراصد، أو من يسأل عن صيدليّة مناوبة ليلاً لحالة إسعافيّة، أو من يطلب مياهاً للشرب إلى من يحتاجها.
الواضح أنّ ظاهرة المراصد تنمو بشكل متزايد رغم استهداف الطيران لأبراج الاشارة الخاصة بهم بعض الاحيان عند وضعها على مكان مرتفع، إلا أن القائمين عليها أصبحوا أكثر ادراكاً للوضع ليتحصنوا بمناطق أكثر أماناً تحت الأرض أو بعيداً عن مكان الأبراج، متجاوزين كل العقبات التي واجهتهم من التجسس عليهم وعقبات اللغة من خلال خبراء في هذه المجالات.