في خطوة لافتة في رمزيّتها، أقدم يوم الجمعة في 16 تشرين الأوّل/أكتوبر من عام 2015 الشاب محمّد حرز على إضرام النار بجسمه أمام المحكمة العسكريّة، احتجاجاً على قرار قاضي التّحقيق العسكريّ الإبقاء على النّاشطين وارف سليمان وبيار الحشاش قيد التّوقيف. وعلّل القاضي قراره بإدعائه على الموقوفين بتهمة قيامهم بأعمال شغب خلال تظاهرة الثامن من أكتوبر، والّتي تأتي ضمن سلسلة مظاهرات وحراك شعبيّ ملأ شوارع بيروت منذ آب/أغسطس من عام 2015 أطلقت شرارته أزمة النفايات، لما أظهرته من شلل حكوميّ وفساد مستشرٍ على كلّ مستويات الدولة.
غضب الشارع انفجر في وجه الطبقة السياسيّة بكاملها ولم يستثن أحداً. وأولى شعارات هذا الحراك كان "طلعت ريحتكم"، وفي العنوان إشارة ليس فقط إلى النفايات المتراكمة على الطرق، ولكن أيضاً إلى فساد الطبقة السياسيّة من دون استثناء. ومن أجل قطع الطريق أمام أيّ من الأحزاب على إحتوائه، أسرع المتظاهرون إلى رفع شعار "كلّكن يعني كلّكن"، وفي ذلك أبلغ دليل على أنّ غضب الشارع لم يستثن أيّ أحد من الطبقة السياسيّة. والسؤال اليوم: هل يستطيع الحراك إنقاذ لبنان من حال الشلل والتّعطيل الّتي أصابت مؤسّساته بسبب الانقسام العميق ما بين المكوّنات السياسيّة؟ أم أنّ هذا الحراك الّذي بلغ ذروته في 29 آب/أغسطس من عام 2015 من حيث المشاركة الشعبيّة الواسعة، في طريقه إلى الزوال، بعد أن بدأت أعداد المتظاهرين تتضاءل لأسباب عدّة ليس أقلّها أعمال الشغب والعنف الّتي اعترضت بعض المظاهرات وأخلّت بطابعها الجامع، المدنيّ والسلميّ؟
وفي الحقيقة، إنّ هذا الحراك المدنيّ لا يشبه أيّ شيء عرفه لبنان منذ أربعة عقود، فلطالما كانت التّظاهرات الّتي ملأت ساحاته في الأعوام العشرة الأخيرة تحمل عناوين سياسيّة، قلّما تطرّقت إلى هموم المواطن الإقتصاديّة والإجتماعيّة مثل حاجاته إلى طرق نظيفة وكهرباء من دون انقطاع وفرص عمل... إلخ. كما كان الحشد الشعبيّ في الماضي يخضع إلى اعتبارات طائفيّة، حتّى لو كانت الشعارات المرفوعة وطنيّة، تظاهرات 14 آذار مثلاً غلب عليها اللّون السنيّ، بينما تلك التابعة لـ8 آذار طغى عليها الطابع الشيعيّ. أمّا الأحزاب المسيحيّة فتوزّعت بين الفريقين، ولكنّها في الفترة الأخيرة حملت هي، أيّ الأحزاب المسيحيّة، أيضاً شعارات طائفيّة مثل المطالبة بـ"حقوق المسيحيّين"، ولو اختلفوا في ما بينهم في كيفيّة تحصيل تلك الحقوق. ولا عجب في ذلك، فالنّظام السياسيّ في لبنان طائفيّ يقوم على التّمثيل الطائفيّ في مؤسّسات الدولة وتوزيع السلطة في ما بين ممثّليها. وما يزيد الشعور الطائفيّ، الحرب الدائرة في المنطقة العربيّة من اليمن إلى سوريا، مروراً بالعراق، والّتي أخذت منحى حرب سنيّة - شيعيّة.
وإنّ جديد هذا الحراك أنّه عابر للطوائف، جمع شباباً من مختلف المناطق والأديان، حمل شعارات مطلبيّة مثل رفع النفايات والقضاء على الفساد. صحيح أنّ الشعارات تخطّت الإطار المطلبيّ، حتّى وصلت إلى المناداة بإسقاط النّظام، إلاّ أنّها كانت بعيدة كلّ البعد عن المنطق الطائفيّ، حتّى المطالبة بإسقاط النّظام، ليست سوى تعبير عن النّقمة العارمة على الطائفيّة. أمّا الجديد الآخر، والّذي شكّل الظاهرة اللاّفتة هو شعار "بدنا نحاسب"، الّذي عبّر بدوره عن توق اللبنانيّين إلى محاسبة الموكلين بإدارة شؤونهم، خصوصاً أنّ المؤسّسات المولجة بالمراقبة والمحاسبة هي شبه معطّلة، لا سيّما أنّ من تعطّلها هي طبقة سياسيّة عجزت عن إنتخاب رئيس وإنتاج حكومة فاعلة، طبقة أتت عبر صناديق الإقتراع، ثمّ ما لبثت أن انقلبت على ناخبيها، حين قرّرت في 5 تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2015 التّمديد لنفسها. صحيح أنّ الحراك المطالب بالمحاسبة والقضاء على الفساد لم يفلح في تغيير النّظام، لكنّه أطلق ديناميّة جديدة في الحياة السياسيّة.
"اليوم أصبحت الحكومة تصغي إلينا"، قالت ليا بارودي لـ"المونيتور"، وهي ناشطة إجتماعيّة واكبت الحراك منذ بداياته. وفجأة تحرّك بعض أجهزة الرقابة كمن استفاق من سبات عميق. ففي 16 أيلول/سبتمبر من عام 2015، حرّك النائب العام الماليّ القاضي علي ابراهيم ملفّ السياسيّين الّذين لا يسدّدون فواتير الكهرباء. وطالب بقطع الكهرباء عنهم إن لم يسدّدوا فواتيرهم، وهي مستحقّات تعود إلى عام 2000.
كما طالت هذه الديناميّة المستولدة من الحراك، الأحزاب التقليديّة الّتي أجبرت على تصويب مسارها وتحديد أولويّاتها في شكل يلاقي المناخ الشعبيّ. ففي 15 أيلول/سبتمبر من عام 2015، أعلن حزب الكتائب اللبنانيّة عن إنشاء مرصد للفساد على لسان رئيسه سامي الجميّل. أمّا الإنجاز الأكبر فكان في موضوع النفايات. فلقد أجبرت الحكومة على نقل الملف من الوزير محمّد المشنوق المطالب بالإستقالة من قبل الحراك إلى الوزير أكرم شهيب. كما أجبرت على طرح خطّة مكتملة لإدارة النفايات، جاء فيها إقرار مطلب أساسيّ، ألاّ وهو تفعيل اللامركزيّة عبر توكيل البلديّات مهمّة معالجة النفايات عبر تحرير صناديقها وإقرار حريّتها بالتّعاقد مع القطاع الخاص. صحيح أنّ هذه الخطّة ما زالت تلاقي إعتراض بعض المنظّمات البيئيّة والمحليّة، ولكن لا بدّ من الاعتراف بأنّها ما كانت لترى النور لولا الضغوط الشعبيّة.
لكنّ الحراك رغم إنجازاته تلك فقد من زخمه، فالدعوات إلى التّظاهر الأسبوعيّة لم تعد تحشد الآلاف. ولا شكّ في أنّ ما آل إليه بعض هذه التّظاهرات من أعمال عنف وتكسير للمحال التجاريّة، خصوصاً في وسط بيروت الّتي أعيد إعمارها من ركام الحرب الأهليّة في بداية تسعينيّات القرن الماضي، لم يرق لكمّ كبير من اللبنانيّين.
"هم تعاطفوا مع الحراك لأنّه طالب أوّلاً برفع النفايات من الطرق، ولكن هذا لا يبرّر اللّجوء إلى التّكسير والتّخريب أو الانحراف نحو شعارات فئويّة ليست محطّ إجماع مثل التّصويب على شركة سوليدير المولجة إعادة إعمار وسط المدينة"، قال لـ"المونيتور" أحد قياديّي تيار "المستقبل" المتعاطف مع الحراك.
وهناك أيضاً خطأ في التكتيك المتّبع، قالت ليا بارودي لـ"المونيتور": "لم نتمكّن من الرسملة على إنجازات الحراك. لم نعلن إنتصاراً حينما تجاوبت الحكومة أو أجبرت على التجاوب. هكذا إعلان يشكّل إشارة إلى الرأي العام أنّ التّظاهر منتج ومفيد".
أضافت: "على العكس، تمسّك المنظّمون بالموقف الرفضيّ المطلق. رفع سقف المطالبة إلى أقصى الحدود، شكّل إنطباعاً أنّ التّظاهر غير مجدٍ، تعب الناس".
وتابعت: "كما لو أنّ الهدف أصبح التصادم مع القوى الأمنيّة، وذلك من أجل تسليط الأضواء على الحراك والحشد الشعبيّ. نسينا القضيّة الأساس، وهي الملفّات المطلبيّة: نظافة، ماء، كهرباء، فرص عمل... إلخ"...، " ولكن رغم الأخطاء علينا الإستمرار بالحراك والمحافظة عليه".
بارودي قد تكون على حق. على الرغم من كل عيوبها فإن الحركة المدنية هي ضرورة للبنان. في بلد محروم من مؤسسات عاملة، الشارع يتصرف، حتى مع بعض درجة من الفوضى، كمعارضة وإذا لم تتم تلبية مطالب الشباب، خيارهم الوحيد يبقى الهجرة.