يتعقّد شكل الصراع في العراق وسوريا يوماً بعد يوم، فدخول روسيا المعركة في سوريا والعراق مثّل تعقيداً إضافيّاً للصراع الّذي تتشابك معطياته. وهذا التدخل الدوليّ الكبير يشكّل بلا ريب تحديّاً كبيراً لدول المنطقة الهشّة في أمنها وتكوينها السياسيّ وتجاربها السياسيّة، ناهيك عن هشاشة مفهوم المواطنة داخل حدودها. والعراق مثال للدول الضعيفة في المنطقة التي لم تتصرف مع تطورات الاحداث بشكل يحمي مصالحها، ويجعلها بعيدة عن آثار الصراع البيني بين الدول الكبرى في الشرق الأوسط.
وكانت قيادة العمليّات المشتركة (الجيش والحشد الشعبي وقوات أمن داخلي) في العراق قد أعلنت في بيان بـ27 أيلول/سبتمبر أنّ العراق أبرم إتفاقيّات أمنيّة واستخباريّة بالتنسيق مع دول مختلفة في إطار محاربة تنظيم "داعش". وتتضمّن هذه الدول أطرافاً متضادّة مثل: روسيا وإيران وسوريا ومصر وتركيا والأردن وألمانيا وفرنسا، إضافة إلى أعضاء آخرين في التّحالف الدوليّ بقيادة الولايات المتّحدة الأميركيّة، الّذي يحارب التّنظيم والمؤلّف من 60 بلداً.
وأكّد المكتب الإعلاميّ لرئيس الوزراء العراقيّ حيدر العبادي في الثلاثين من أيلول/سبتمبر أنّ العراق وافق على تأسيس مركز تنسيق معلوماتيّ مع روسيا، إيران وسوريا في العراق، وقد بدأت روسيا غاراتها الجويّة ضدّ قوّات المعارضة السوريّة، في 30 أيلول 2015، تزامناً مع خبر تأسيس المركز التنسيقيّ.
وأعلنت روسيا بدورها على لسان وزير خارجيّتها سيرغي لافروف أنّ بلادها على استعداد لشنّ غارات جويّة على مواقع "داعش" في العراق أيضاً.
كما أعلن سابقاً في أيّار/مايو من هذا العام أنّ روسيا ستلبّي طلبات سوريا والعراق ومصر لدعمها في طرد الإرهابيّين من أراضيها.
وإثر بدء الغارات الروسيّة في سوريا في 30 أيلول 2015 ، طالب نوّاب في البرلمان العراقيّ حيدر العبادي بأن يدعو روسيا رسميّاً إلى تنفيذ ضربات جويّة في العراق أيضاً لقصف عناصر "داعش" وعدم الاكتفاء بالتّعاون الاستخباريّ. وقد سبق ذلك، زيارة وزير الدفاع العراقيّ خالد العبيدي لموسكو في 31 آب/أغسطس باحثاً عن إيجاد إتفاقيّات أمنيّة وعقد صفقات أسلحة مع الجانب الروسيّ لغرض تنويع مصادر تسليح الجيش وإعادة بناءه، وأبدت موسكو الاستعداد لتزويد العراق بأسلحة جديدة تشمل قاذفات.
ورغم الطلبات من قبل بعض الجهات السياسيّة وقسم من الشارع العراقيّ بقيام العراق بتوسيع تعاونه العسكريّ والأمنيّ مع روسيا الى درجة تشكيل تحالف معها، فالقرار في هذا الخصوص ليس سهلاً على الحكومة العراقيّة، والسبب في ذلك يعود إلى عدم وجود إتّفاق داخليّ بين الشركاء السياسيّين من جهة، وحذر العراق من جهة أخرى من الوقوع في الاستقطابات والصراعات بين الدول الكبري الجارية في المنطقة، وبالنّتيجة خسارة دعم الجانب الأميركيّ لصالح الجانب الروسيّ.
ومن حيث ردود الفعل الداخليّة، أشار إتّحاد القوى الوطنيّة الّذي يمثّل القوى السنيّة في تصريح لأحد نوّابه وهو عبد القهار السامرائي، في الثامن من تشرين الأوّل/أكتوبر إلى أنّ "التّحالف الرباعيّ الجديد قد يربك العمليّة السياسيّة وينتج تقاطعات بين الدول العظمى على الساحة العراقيّة، وأنّ هنالك تشنّجات من قبل دول المنطقة مثل تركيا والسعوديّة والكويت والأردن إزاء ذلك التّحالف".
ويبدو أنّ العبادي يقاوم حتّى الآن ضغوط قوى وأحزاب شيعيّة، مثل فصائل الحشد الشعبي، التي قالت في ان 20 سبتمبر 2015 ان "تحالف بغداد ودمشق وطهران وموسكو، حق طبيعي وقانوني للعراق".
تطالب بضرورة الانضمام الكامل إلى التّحالف الروسيّ والإسراع بإرسال طلب رسميّ إلى روسيا للمشاركة في شنّ هجمات على "داعش" في العراق، لكنّ العبادي متريّث ولا يريد أن يجازف بعلاقاته مع الغرب في هذه المرحلة الحسّاسة، واكتفى بالتّعاون المعلوماتيّ والحصول على صفقات أسلحة من روسيا، وامتنع عن الذهاب وراء ذلك، كي لا يخسر الولايات المتّحدة بوصفها حليفاً استراتيجيّاً للعراق.
ويعدّ حذر العبادي في مكانه تماماً، لأنّ الوضع السياسيّ العراقيّ الهشّ أساساً لا يتحمّل المزيد من الانقسامات الداخليّة، الّتي ستحصل في حال قيام العراق بتغيّر جذريّ في تحالفاته الدوليّة، فضلاً عن أنّ العبادي لا يرى بديلاً مضموناً للتّحالف الغربيّ عبر التّحالف الروسيّ الجديد. كما لا يريد أن يحوّل العراق إلى أرض معركة جديدة بين قوى عالميّة، ستؤدّي بنتائج لا تحمد عقباها.
ولكن العبادي في الوقت ذاته، لا يرى نفسه مستغنياً عن أيّ طرف خارجيّ يساعد العراق في استعادة أراضيه والتخلّص من "داعش"، وخصوصاً في ظلّ الدخول القويّ لروسيا في محاربة "داعش"، وتأكيد الولايات المتّحدة أنّ محاربة "داعش” ستكون طويلة، وإنّ القضاء على التنظيم لن يكون سريعاً. وبالنّتيجة، إنّ العراق الآن أمام تحدًّ كبير في كيفيّة تنظيم علاقاته الدوليّة في الحرب ضدّ الإرهاب. وقد يفتح هذا التحدّي خيارات أكثر فعاليّة للعراق، في حال تمكّن العبادي من الجمع بين التّحالف الأميركيّ والروسيّ في سياق متناغم وغير مضادّ، ممّا يرتّب نقطة انطلاق لحلّ شامل بالمنطقة في وقت غير بعيد.
ولا تعدّ فرضيّة كهذه مستحيلة على أيّ حال، في ظلّ التحدّيات المشتركة الّتي يواجهها كلّ من الأطراف الدوليّة عبر استمرار بقاء التّنظيمات الإرهابيّة في المنطقة. وقد ألمح الرئيس الأميركيّ باراك أوباما إلى رغبة الولايات المتحدة في التّعاون الأميركيّ – الروسيّ في كلمته الافتتاحيّة في قمّة مكافحة الإرهاب الّتي انعقدت بـ29 أيلول/سبتمبر في نيويورك، وأبدى أوباما استعدادا الولايات المتحدة للعمل مع روسيا وإيران لإيجاد تسوية للحرب في سوريا، مشيراً إلى أنّ هزيمة التّنظيم ستكون ممكنة في حال إيجاد إتّفاق سياسيّ بين الأطراف الدوليّة والإقليميّة المتنازعة. وفي ظلّ هذه الصورة المعقّدة للصراع، يتحتّم على العراق تفعيل ديبلوماسيّته الخارجيّة وترغيب الجانبين الأميركيّ والروسيّ في العمل المشترك ضدّ تنظيم "داعش"، وذلك كي لا يشهد العراق صراعاً جديداً بين التّحالف الأميركيّ والروسيّ، لكن مهمّة كهذه تستدعي استدعاء الإمكانات العراقيّة على صعيد عمق البلاد تاريخيّاً وتداخلها في صميم أزمات وأولويّات المنطقة لإنتاج مساحة يمكن أن تمثّل نقطة التقاء روسيّة - أميركيّة فاعلة.
والسؤال الّذي يمكن أن يقفز في هذا الصدد مفاده: "ألم يكن بإمكان العراق أداء مثل هذا الدور التوافقيّ داخل المصالح المتصارعة في المنطقة (إيران/تركيا/السعوديّة ودول الخليج)؟ فلماذا فشل في ذلك؟ وكيف بامكانه تحقيق توافق أشدّ صعوبة وتعقيداً كالّتوافق الأميركيّ- الروسيّ؟".
فهذا السؤال منطقيّ، لكنّه لا يأخذ في الحسبان تغيّر معطيات المنطقة نفسها بعد بروز تنظيم "داعش" كخطر إقليميّ ودوليّ، وأيضاً تغيّر عقليّة منظومة الحكم العراقيّة في عهد العبادي إلى محاولة فهم طبيعة الصراع الإقليميّ والدوليّ وإيجاد أرضيّة للحوار معه.
وفي المحصّلة، الكرة ما زالت في ملعب العراقيّين مهما افترض المراقبون للأوضاع السياسية، عكس ذلك، فهم معنيّون بتحويل بلادهم إلى ساحة صراع دوليّ خطر، أو نقطة تلاق وحوار بين المختلفين إقليميّاً ودوليّاً. وكل كانت الخلافات السياسية الداخلية عميقة، فآنها ستحول دون كسب الحرب على الإرهاب، و ستعطل أي تفاهم مع الدول الأخرى لكسب مساعدتها في الحرب الدائرة ضد داعش على الأرض العراقية.