مدينة غزّة - مع صبيحة كلّ يوم، يتوجّه عطا الهندي (37 عاماً)، إلى المنازل الّتي دمّرتها الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على غزّة في حيّ الشجاعيّة وسط قطاع غزّة، محاولاً استخلاص ما يمكن استصلاحه من موادّ بناء متناثرة بين ركام هذه المنازل الّتي كانت شاهدة على قسوة الحرب، وبيعها إلى مصانع محليّة صغيرة لإعادة تدويرها، في محاولة منه لتحقيق دخل ماديّ يجعله قادراً على إعالة أسرته المكوّنة من 4 أفراد.
لقد خلقت ركام المنازل المتناثرة في قطاع غزّة، والّتي يبلغ وزنها بين 3- 4 ملايين طنّ، فرص عمل لمئات العاطلين عن العمل من خلال استخلاص قضبان الحديد والحصى منها، في الوقت الّذي وصلت فيه نسبة البطالة في غزّة إلى 43 بالمئة في نهاية عام 2014، وهي الأعلى في العالم، وفق تقرير صادر عن البنك الدوليّ في آذار/مارس 2015.
وقال عطا الهندي الّذي كان يتصبّب عرقاً، وهو يحاول إعادة تقويم سيخ حديد مصاب بالتواءات عدّة أمام أحد المنازل المدمّرة، لـ"المونيتور": "أقوم برفقة نجلي البالغ (16 عاماً) باستخلاص الحديد والحصى من بين ركام المنازل، بعد الإتّفاق مع مالك المنزل المدمّر على شراء ما يتمّ استخلاصه، حيث يبلغ ثمن شراء طنّ الحديد المستخلص (140 سيخاً قطر 10 مليمترات) 300-350 دولاراً، فيما يبلغ ثمن شراء الطنّ الواحد من الباطون والحجارة والحصى المستخلصة بنحو 40 دولاراً فقط".
وأشار إلى أنّ في نهاية النهار، ينقل ما يتمّ استخلاصه من موادّ بناء عبر عربة كارو يملكها، إلى مصانع موادّ البناء ومعامل تكسير الباطون في غزّة، حيث يبيع ما جمعه، بما يحقّق له ربحاً يوميّاً يقدّر بـ30-40 دولاراً فقط، وقال: "لقد كنت عاملاً في أحد مصانع الحجارة في غزّة، ولكن المدفعيّة الإسرائيليّة دمّرت هذا المصنع خلال الحرب الأخيرة، وجعلتني عاطلاً عن العمل مثل آلاف العمّال الآخرين، وشاءت الأقدار أن أجد عملاً من خلال ركام ما تمّ تدميره خلال هذه الحرب".
ودمّرت الحرب الإسرائيليّة على غزّة (من 7 تمّوز/يوليو حتّى 28 آب/أغسطس من عام 2014) نحو 60 ألف مسكن، تضرّر 20 ألفاً منها في شكل بالغ وأصبحت غير صالحة للسكن، بحسب بيان وكالة غوث وتشغيل اللاّجئين الفلسطينيّين "أونروا" نشر في 11 سبتمبر/ أيلول 2014.
ولم يبارح معظم ركام المنازل المدمّرة مكانه، رغم مضي أكثر من عام على انتهاء الحرب، إذ قال وزير الأشغال العامّة والإسكان مفيد الحساينة، خلال مؤتمر صحافيّ عقد في غزّة في الرابع عشر من أيلول/سبتمبر 2015: "ما تمّت إزالته حتّى الآن من ركام المنازل المدمّرة، لا يتجاوزالـ20 في المئة من إجماليّ الركام".
ورأى أستاذ العلوم الإقتصاديّة في جامعة الأزهر في غزّة معين رجب أنّ الحروب وتدنّي الأوضاع المعيشيّة ومستويات الإقتصاد المحليّ ساهمت بشكل كبير في توجّه العاطلين عن العمل والخرّيجين الجامعيين لأداء أعمال شاقّة، مقابل أيّ مقدار من المال لأجل المساهمة في إعالة أسرهم، وقال لـ"المونيتور": "هناك حالة تكدّس وظائفيّ في كافّة المجالات والنواحي في قطاع غزّة، الأمر الّذي خلق حالة من اليأس لدى العاطلين عن العمل، وخصوصاً الخرّيجين الجامعيّين من الحصول على فرصة عمل كريمة. لذلك، لا يتردّد العاطل عن العمل في اتّخاذ خيارات قاسية وأداء أيّ مهامّ شاقّة من أجل تحصيل لقمة عيش أطفاله".
ويستخدم العاملون في استخلاص الحديد والحصى من أعمدة المنازل المدمّرة وجدرانها آلات بسيطة مثل المطرقة، وملازم خاصّة لتعديل التواءات قضبان الحديد، فيما يقضون أوقاتاً طويلة في هذا العمل تصل إلى نحو 12 ساعة في اليوم الواحد.
إنّ خالد أبو حطب (26 عاماً)، الّذي تخرّج قبل نحو عامين من كليّة التجارة في الجامعة الإسلاميّة بغزّة، وجد من هذا الركام ملاذاً له للحصول على فرصة عمل، إذ قال لـ"المونيتور": "العمل هنا شاق للغاية. ورغم أنّني كنت أحلم بوظيفة مكتبيّة، إلاّ أنّ هذا العمل انتشلني من البطالة، وجعلني قادراً على أن أنفق على نفسي".
ويقوم هذا الشاب الأعزب رغم هزالة بنيته الجسديّة، بتكسير أعمدة الباطون بواسطة مطرقة تبلغ زنتها 12 كلغ، فالمطلوب منه تحويل هذه الأعمدة الخرسانيّة المسلّحة إلى فتات صغيرة من الحصى والباطون، من أجل تسهيل نقلها وبيعها إلى مصانع إعادة تدوير موادّ البناء.
وأشار أبو حطب، الّذي يعمل برفقة أربعة عمّال آخرين إلى أنّ ربّ عمله يمنح كلاًّ منهم أجراً يوميّاً لا يتجاوز الـ50 شيقلاً (نحو 13 دولاراً)، رغم المخاطر الكبيرة الّتي يتعرّضون لها نتيجة انهيار الأعمدة والأسقف في شكل مفاجئ خلال العمل، لافتاً إلى أنّ هذا المبلغ يكفيه لشراء حاجاته الشخصيّة، ولكنّه لا يشجع على الزواج وتأسيس أسرة جديدة.
ومن جهته، يقوم أبو صلاح السوارحة، وهو صاحب معمل لتكسير الإسمنت المسلّح في مخيّم النصيرات وسط قطاع غزّة، بشراء موادّ البناء المستخلصة من المنازل المدمّرة من أولئك العاملين وإعادة تدويرها من جديد لبيعها إلى زبائن أو تجّار، وقال لـ"المونيتور": "إنّ تذبذب دخول موادّ البناء إلى غزّة وعدم تحقيق الاكتفاء الذاتيّ منها يدفعني لشراء الحديد والحصى من الشبّان العاملين على استخلاصها من المنازل المدمّرة".
ولا ينصح الرّجل باستخدام هذه الموادّ المعاد تدويرها في بناء منازل جديدة، بسبب مرور سنوات على استخدامها مسبقاً، حيث يقوم ببيعها فقط لزبائن يرغبون في إجراء ترميمات على منازلهم المتضرّرة بشكل طفيف، أو لمن يرغب في بناء غرف أرضيّة، لا أبنية كبيرة.
وبالنّسبة إلى معين رجب، فإنّ "إسرائيل لا تزال لا تسمح بدخول سلع وموادّ خام كثيرة إلى غزّة مع استمرار الحصار الإسرائيليّ المفروض منذ ثمانية أعوام، إضافة إلى منع إدخال المعدّات المعدنيّة لتشغيل المصانع الكبيرة، الأمر الّذي تسبّب بإغلاق قطاعات إنشائيّة وصناعيّة واسعة مثل ورش النجارة والحدادة ومصانع البلوك والحصى والحديد، وبقاء آلاف العمّال من دون عمل".
ومن جهته، قال نائب رئيس إتّحاد الصناعات الفلسطينيّة في غزّة محمّد حمد خلال لقاء أجري في الخامس عشر من إبريل/نيسان الماضي: "إنّ 90 في المئة من المعدّات المعدنيّة ممنوعة من الدخول إلى القطاع بحجّة ذهابها للمقاومة".
وعاد الشاب أبو حطب هنا ليشير إلى أنّ هذا العمل رغم مخاطره الكبيرة يعدّ "أفضل من لا شيء في الوقت الراهن"، وقال: "أتمنّى أن يتمّ انتشالي وغيري من الخرّيجين الجامعيّين من هذه المهام الشاقّة، من خلال إيجاد حلول للأزمات الإقتصاديّة الّتي تعاني منها بلادي".