يُعتبَر النقاش الدائر في الكونغرس الأميركي حول الاتفاق مع إيران من أهم السجالات في التاريخ الأميركي الحديث. فما هو على المحك ليس اتفاق فيينا وحسب، إنما أيضاً وفي شكل أساسي المكانة الدولية للولايات المتحدة الأميركية. حتى إنه قد يكون للأمر تأثير على هويتها كدولة ليبرالية.
قال مصدر رفيع في وزارة الخارجية الأميركية طلب عدم ذكر اسمه، لموقع "المونيتور" إن الإدارة الأميركية لن تألو جهداً لإقناع الكونغرس بالموافقة على الاتفاق: "سوف يتواصل البيت الأبيض مع كل عضو في الكونغرس. لا شك لدينا في أنه سيتم إقرار الاتفاق، من دون فيتو رئاسي على الأرجح. مصداقية سياستنا في الشرق الأوسط على المحك، وكذلك مصداقيتنا تجاه شركائنا العالميين في مجموعة خمسة زائد واحد [الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي زائد ألمانيا]". أضاف أن الاتفاق يلبّي الهدف الذي وضعه الرئيس باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري: التأكّد من أن إيران لن تطوّر سلاحاً نووياً على الأقل خلال الأعوام الخمسة عشر المقبلة، وإبعاد الشعور بالذل عن الإيرانيين. لقد بلغت المفاوضات، بحسب المصدر، توازناً مفيداً لجميع الأطراف، إذ تتيح أفضل الظروف الممكنة لضمان استدامة الاتفاق. وقد أوضح المصدر الرفيع في وزارة الخارجية أن اتفاق فيينا جزء من عقيدة أوسع نطاقاً يعتمدها أوباما في السياسة الخارجية.
يتناسب هذا الاتفاق مع الخطوط الأيديولوجية العريضة لسياسة أوباما الخارجية، حيث تأتي الديبلوماسية أولاً فيما يأتي خيار الحرب في المرتبة الأخيرة. يقيم أوباما وزناً كبيراً للمزايا الاقتصادية والتكنولوجية والأكاديمية التي تتمتع بها بلاده. لهذا يحاول تكييف السياسات الأميركية مع النظام الإيكولوجي الدولي المتغيِّر، حيث لم يعد بالإمكان الفوز في الحروب، وخير دليل على ذلك الحرب في العراق وأفغانستان. لقد أصبحت الانتصارات الحاسمة جزءاً من الماضي، في حين أنه غالباً ما تتسبّب الحروب في حقبتنا بزعزعة الاستقرار والأمن لفترات مطوّلة، وحتى باندلاع مزيد من النزاعات.
تقع الديبلوماسية الجماعية في صلب هذه العقيدة في السياسة الخارجية. تعتبر الإدارة الأميركية أن العقوبات الجماعية، وهيكلية المفاوضات الجماعية في إطار "مجموعة خمسة زائد واحد"، والاتفاقات الجماعية هي عناصر أساسية للنجاح على الساحة الدولية. تصغي أميركا في عهد أوباما إلى الاتحاد الأوروبي، وحتى إلى روسيا والصين.
إنه تحوّل أساسي في السياسة الخارجية الأميركية بالمقارنة مع عهدَي الرئيس رونالد ريغان والرئيس جورج دبليو بوش، عندما كانت الولايات المتحدة تؤدّي دور شرطي العالم. تراعي إدارة أوباما عقول الأميركيين وقلوبهم، والذين يرفضون في غالبيتهم أي تدخل عسكري أميركي على الأرض. تعكس عقيدة أوباما نهجاً أكثر ليبرالية يتبنّى استراتيجية الحلول السلمية للنزاعات بالتعاون الكامل مع الشركاء.
إذاً ليس الاتفاق النووي المسألة الوحيدة المطروحة على التصويت في الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون والذي يريد أن تكون الولايات المتحدة أكثر محافظية ولجوءاً إلى القوة والحسم، بل إن رؤية أوباما للولايات المتحدة مطروحة أيضاً على التصويت. يمكن الافتراض بأنه خلال الأيام الستين المخصصة لمناقشة الاتفاق، سيتم إقراره في الكونغرس، مع استخدام الفيتو الرئاسي على الأرجح.
وقد توقّع المصدر في وزارة الخارجية أنه بعد انقضاء هذه المرحلة في الكونغرس، سوف ترصد الإدارة الأميركية تطبيق الاتفاق بالتنسيق مع "مجموعة خمسة زائد واحد". ويعتقد أن كيري سيحافظ، طوال مرحلة التطبيق، على اتصالاته مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف بعيداً عن الأضواء.
شهدنا خلال المفاوضات على تقارب مفهومي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حول مصالح كل منهما ونظرتهما إلى تسوية النزاع.
في حين ترى أوروبا وروسيا والصين في اتفاق فيينا نقطة تحول تاريخية إيجابية، تساور مخاوف شديدة جزءاً كبيراً من العالم العربي لا سيما دول الخليج. لقد رحّب معظم القادة العرب بالاتفاق إنما بفتور شديد.
تخشى هذه البلدان، لا سيما السعودية، أن يساهم الاتفاق في تعزيز مكانة إيران الإقليمية من خلال البوابة السورية والعراقية واليمنية. لقد أعلن أوباما بأن إدارته تتواصل مع بلدان الخليج في إطار الحوار الذي أُطلِق في كمب ديفيد في أيار/مايو الماضي. تهدف الإدارة الأميركية إلى طمأنة مصر والأردن، والسعودية وسواها من بلدان الخليج، بأنها ستقف إلى جانبها في المعركة ضد الأنشطة الإرهابية المتزايدة في المنطقة (والتي تحظى بالدعم والتمويل من إيران). بيد أن ردود الفعل غير الحماسية حيال الاتفاق مع إيران تكشف أن أولئك القادة العرب لم يقتنعوا تماماً بعد.
الوضع مختلف في إسرائيل. فقد أبدى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو صراحةً ومن دون تردّد معارضته الشديدة للاتفاق الذي وصفه بأنه خطأ تاريخي يعرّض أمن إسرائيل والعالم الغربي للخطر. تتناقض هذه النظرة مع تحاليل بعض أبرز الخبراء النوويين والأمنيين في إسرائيل، مثل عوزي عيلام، الرئيس السابق للجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية. فقد قال عيلام في مقابلة عبر الإذاعة العامة الإسرائيلية في 15 تموز/يوليو الجاري إن الاتفاق يساهم في إرجاء البرنامج النووي الإيراني لمدة عشر سنوات على الأقل.
بحسب مصدر مقرّب من نتنياهو، سينخرط رئيس الوزراء الإسرائيلي بقوة في المعركة التي يخوضها الكونغرس حول الاتفاق النووي. فهو يتواصل حالياً مع المنظمات اليهودية الأميركية الأكثر ميلاً نحو اليمين، مثل "مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأميركية الكبرى" و"لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية" (أيباك)، سعياً للحصول على الدعم. لا يثق نتنياهو بأوباما، ويعتبره قائداً ساذجاً قلبه أقرب إلى العرب منه إلى إسرائيل. ولذلك يؤجّل اتخاذ القرار بشأن قبوله عرض أوباما تقديم رزمة تعويضات أمنية إلى إسرائيل، إلى ما بعد النقاش في الكونغرس.
من الواضح أن إسرائيل هي الخاسرة من هذا التطور الدراماتيكي. فقد تلقّت علاقاتها مع الإدارة الأميركية ضربة قوية لا رجوع عنها، ولا شك في أن تأثيراتها ستدوم لفترة طويلة. فبسبب الاتفاق ورد فعل نتنياهو، إسرائيل الآن هي أكثر عزلة على الساحة الدولية من أي وقت مضى. من شأن هذا الوضع الخطير الذي تجد إسرائيل نفسها فيه الآن أن يتفاقم ويتحوّل إلى كارثة في حال تمكّن نتنياهو والجمهوريون من إسقاط الاتفاق في الكونغرس.