بيروت - لم تقتصر الحركة الكنسيّة في بيروت هذه الأيّام، على المستوى الفاتيكانيّ الكاثوليكيّ، إذ لم تلبث الكنيسة الأرثوذكسيّة أن واكبتها. ففيما كان الموفد البابويّ الخاصّ إلى لبنان الكاردينال دومينيك مامبرتي يجول على السياسيّين والمسؤولين، بدأت في شكل متزامن التحضيرات لاجتماع عقده بطاركة الشرق كافّة، في دمشق في 8 حزيران/يونيو الجاري، بدعوة من بطريرك الروم الأرثوذكس يوحنا اليازجي. في الشكل، لا ارتباط مباشر بين الحدثين والموعدين. لكن في المضمون، المسائل نفسها مطروحة على جدول المناسبة الكنسيّة في قلب العاصمة السوريّة: أوضاع المسيحيّين في المنطقة، التحدّيات التي يواجهونها، ومستقبل آخر الأقليّات المسيحيّة بين سوريا ولبنان.
انعقد الاجتماع الكنسيّ المشرقيّ هذا الاثنين إذاً، في مقرّ بطريركيّة الروم الأرثوذكس في قلب دمشق، وتحديداً في الحيّ المسيحيّ من العاصمة السوريّة، المعروف باسم باب توما. وهو يحمل هذا الاسم الإنجيليّ، تيّمناً بتلميذ يسوع المسيح توما، أحد رسل مؤسّس المسيحيّة، الذين مرّوا في دمشق القديمة، وساروا على تلك الأرصفة الألفيّة التي يقع مقرّ بطريركيّة الروم الأرثوذكس في مربّعها. وكان لافتاً أنّ الدعوة لاقت إجماعاً من قبل البطاركة المدعوّين إلى تلبيتها، وذلك على الرغم من دقّة الظروف الأمنيّة على الطريق بين بيروت ودمشق، وعلى الرغم من الاعتبارات السياسيّة التي يمكن أن يحاول البعض تحميلها لتلك الزيارة. أكّد بطريرك الروم الكاثوليك غريغوريوس لحّام لموقعنا أوّلاً أنّ خمسة بطاركة، فضلاً عن عدد كبير من الأساقفة والمسؤولين الكنسيّين، وافقوا على تلبية دعوة نظيرهم البطريرك الأرثوذكسيّ اليازجي. وهم إضافة إلى صاحب الدعوة نفسه ولحّام، بطريرك السريان الأرثوذكس أغناطيوس أفرام الثاني، وبطريرك السريان الكاثوليك أغناطيوس يونان الثالث، وخصوصاً البطريرك الماروني بشارة الراعي. علماً أنّ الأخير هو رئيس الكنيسة الكبرى في لبنان.
واعتبر لحّام أنّه من الطبيعيّ أن يسارع البطاركة إلى تلبية الدعوة وفي دمشق تحديداً، حيث أنّ ثلاثة منهم تقع مقرّاتهم الرئيسيّة في العاصمة السوريّة نفسها. ويقصد هو نفسه، إضافة إلى اليازجي وأفرام. ثمّ أنّ الأوضاع الخطيرة التي تعصف بكلّ المنطقة، تفرض على آباء الكنيسة، كما يقول لحّام، التشاور الدائم في كيفيّة مواجهة التحدّيات، خصوصاً موجات الهجرة الكثيفة التي يعيشها مسيحيّو سوريا راهناً. وهو ما جعل صاحب الدعوة البطريرك اليازجي، يدعو إلى انعقادها في دمشق، لا في أيّ مكان آخر، بحسب بطريرك الروم الكاثوليك.
غير أنّ هذا الكلام لا يخفي الجانب السياسيّ من الخطوة. فذهاب البطاركة إلى دمشق في هذا الوقت بالذات، معرّض لاعتباره من قبل معارضي السلطات السوريّة، خطوة للتعبير عن دعم الكنائس الشرقيّة النظام القائم في سوريا. ولذلك يبدو رؤساء الكنائس حذرين في التعاطي مع المسألة، خصوصاً في ضوء تجارب سابقة. فقبل سنتين ونيّف، كانت مناسبة كنسيّة أخرى في دمشق، تمثّلت في الاحتفال بتنصيب البطريرك الأرثوذكسيّ الجديد اليازجي نفسه، في 9 شباط/فبراير 2013. وما كان يومها من البطاركة الآخرين إلّا أن لبّوا دعوة كنيسته للمشاركة في قدّاس تسلّمه سدّة بطريركيّته في مقرّها الدمشقي. وكان على رأس هؤلاء البطريرك الماروني بشارة الراع . غير أنّ المناسبة لم تمرّ من دون انتقادات وملاحظات، إذ سارع العديد من السياسيّين اللبنانيّين المعارضين للسلطات السوريّة، إلى الاعتراض على زيارة الراعي إلى دمشق، واعتبارها خطوة يمكن للنظام السوريّ استثمارها في السياسة والإعلام. وفي محطّة أخرى، شارك عدد من رؤساء الكنائس المشرقيّة في 11 أيلول/سبتمبر 2014، في مؤتمر حول مسيحيّي الشرق الأوسط عقد في واشنطن. وعلى هامشه، التقى هؤلاء الرئيس الأميركيّ باراك أوباما. فلم يلبث أن تردّدت في بيروت أصداء عن مضمون اللقاء، تفيد بأنّ البطاركة والأساقفة أوضحوا للرئيس الأميركيّ أنّ الرئيس السوريّ بشّار الأسد شكّل حماية ما لمسيحيّي سوريا، مقارنة بموجات التطرّف التي تظهر بين معارضيه. ونقل يومها أنّ أوباما نفسه أكّد لرؤساء الكنائس أنّه على علم بهذا الواقع. وهو ما جعل معارضي الأسد أنفسهم، يوجّهون انتقاداتهم مجدّداً إلى رؤساء الكنائس الشرقيّة.
هكذا، بدت هذه التجارب حاضرة في تفكير المشاركين في اجتماع دمشق، يوم الإثنين في 8 حزيران/يونيو الجاري، بحيث أعلن أكثر من مصدر كنسيّ أن الاجتماع لم يتّخذ أيّ طابع سياسيّ، كما أنّ زيارة البطريرك المارونيّ هذه المرّة إلى دمشق، لم تتّخذ أيضاً أيّ طابع سياسيّ، ولم يتخلّلها أيّ لقاء مع أيّ مسؤول سوريّ. وأكّد البطريرك لحّام لموقعنا، أنّ أجندة اللقاء كانت كنسيّة بحتة، ومسيحيّة صرف. فلم تتطرّق إلى أيّ شأن سياسيّ، بل بحثت في قضايا كنائس المنطقة، وقضايا مؤمنيهم المسيحيّين، غير أنّ ذلك لا يعني حصر المسائل المطروحة في قضايا الليتورجيا والطقوس، حيث أنّ التحدّيات التي تواجه المسيحيّين المشرقيّين كثيرة وشاملة. ويتابع لحّام: "كيف نحافظ على وجودنا، وكيف نحفظ دورنا، وكيف نواجه خصوصاً وتحديداً نزف الهجرة الذي يصيب أبناءنا المسيحيّين في كلّ بلدان المنطقة"؟ وأضاف البطريرك لحّام أنّ رؤساء الكنائس المجتمعين في دمشق، حاولوا التوصّل إلى تصوّرات مشتركة لمواجهة هذه الأخطار، وإلى وضع خطط مشتركة للعمل والتحرّك للحفاظ على المسيحيّين في بلدانهم، كما لضمان استمرار عيشهم المشترك مع غير المسيحيّين في تلك البلدان.
غير أنّ هذه التأكيدات، لم تخف جانباً آخر من المناسبة، ألا وهو الجانب السياسيّ بامتياز، فالخطوة التي أقدم عليها البطريرك اليازجي بدعوة الكنائس إلى دمشق، لم تكن بعيدة عن تنسيق بين كنيسته وبين موسكو، فيما لم يحصل انتقال البطريرك المارونيّ إلى العاصمة السوريّة، من دون تنسيق بينه وبين الفاتيكان. هكذا تكتمل حلقة المشهد، ليظهر أنّ الخطوة حلقة في سلسلة البحث عن حماية آخر مسيحيّي المنطقة، ولو من دون أفكار جاهزة ولا تصوّرات مكتملة.
لكنّها مسألة تبدو شديدة التعقيد والصعوبة في ظلّ موجات الإرهاب التكفيريّ الذي يضرب المنطقة. يكفي للمصادفة أنّ الاجتماع تمّ في الذكرى السنويّة الأولى لتهجير مسيحيّي الموصل وبعض قرى سهل نينوى في العراق، بعد اجتياح "داعش" تلك المناطق.