مدينة غزة - لم يكن أمام الصيّاد محمّد الكرد (48 عاماً) خياراً آخر سوى بيع قاربه الخشبيّ وشِباك الصيد خاصّته، وتوديع مهنة الصيّد الّتي ورثها عن والده منذ كان طفلاً صغيراً، إذ اكتشف أخيراً أنّ الاستمرار في هذه المهنة ما هو إلاّ "مضيعة للوقت والجهد"، فضلاً عن تعريض حياته وحياة أبنائه الّذين يساعدونه إلى مخاطر جمّة قد تؤدّي بهم إلى الموت.
وقال الكرد الّذي يسكن في مخيّم الشاطئ للاّجئين في غرب مدينة غزّة لـ"المونيتور": "عملت صيّاداً مع والدي منذ كان عمري 8 أعوام فقط، فورثت عنه قاربه وشباكه. وبعد هذا العمر الطويل، وجدت أنّ بيع القارب والشباك أفضل حلّ لتجنّب الاعتقال أو الإصابة بنيران الجنود الإسرائيليّين في البحر".
يتعرّض الصيّادون في بحر غزّة إلى مخاطر عدّة، أبرزها: إطلاق النّار والاعتقال من قبل البحريّة الإسرائيليّة رغم اتّفاق التّهدئة، إضافة إلى سوء الأحوال الجويّة الّتي تدفعهم إلى تحدّي الأمواج المرتفعة من أجل التقاط لقمة عيشهم، ممّا يزيد من فرص الموت غرقاً.
وإنّ اتّفاق التّهدئة الموقّع بين الوفد الفلسطينيّ وإسرائيل خلال مباحثات وقف إطلاق النّار في أغسطس 2014، نصّ على زيادة مسافة الصيد البحريّ في غزّة إلى 6 أميال، ثمّ إلى 12 ميلاً تدريجيّاً.
ونفى نقيب الصيّادين في قطاع غزّة نزار عيّاش أن تكون إسرائيل قد طبّقت ما نصّ عليه هذا الاتّفاق، مؤكّداً أنّها أبقت المسافة إلى ما دون ستّة أميال، وقال لـ"المونيتور": "يوجد في غزّة نحو 3700 صيّاد يتعرّضون في شكل ممنهج لإطلاق النّار ولتدمير قواربهم خلال ممارستهم الصيد، بسبب مزاعم تخطّي المسافة المحدّدة للصيد".
ومنذ التّوقيع على التّهدئة بين الفلسطينيّين وإسرائيل، أصيب صيّادان اثنان أحدهما بطلق ناريّ في الرّأس والآخر في القدم، فضلاً عن اعتقال أربعين صيّاداً أفرج عنهم بعد أيّام، باستثناء ثلاثة لا يزالون قيد الاعتقال، إضافة إلى تدمير خمسة قوارب ومصادرة عشرين قارباً، وإطلاق النّار في شكل يوميّ تجاه الصيّادين، فهذا ما أكّده عيّاش.
ولفت إلى أنّ البحريّة الاسرائيليّة وضعت أخيراً علامات "عدم التّجاوز" على بعد أقلّ من 5 أميال من شاطئ غزّة، وتقوم بتدمير أيّ قارب يتجاوز هذه المسافة أو تطلق النّار عليه.
وهذا ما حصل مع الصيّاد مهيب شحيبر في نوفمبر 2014، الّذي تعرّض إلى إطلاق النّار من قبل البحريّة الاسرائيليّة خلال سعيه وراء السمك من دون اجتياز العلامات الموضوعة، الأمر الذي أدّى إلى تدمير المحرّك الخاصّ بمركبه، وتكبيده خسائر قدّرت بـ1500 شيقل (375 دولاراً).
وإنّ شحيبر (37 عاماً)، الّذي كان يستعدّ لبدء رحلة جمع شباك الصيد، بعد أن وضعها في البحر في ساعات الليل عبر مركب ذي مجدافين، قال لـ"المونيتور": "معظم ما نصطاده في المسافة المحدّدة لنا هو سمك السردين وبعض الأسماك الصغيرة الحجم والرّخيصة الثمن الّتي لا تتجاوز حجم الكف. لذلك، يسعى الصيّادون إلى صيد أسماك أكبر حجماً لتحقيق ربح يمكن أن يجعل من هذه المهنة تستحقّ العناء".
ومن جهته، قال نزار عيّاش: "إنّ إسرائيل فتحت باب تصدير الأسماك من غزّة إلى الخارج كتسهيلات لقطاع الصيد، ولكن هذا الأمر لا يعود بأيّ فائدة لأنّ إنتاج الثروة السمكيّة لا يغطّي الاستهلاك المحليّ. كما أنّها تحاول إظهار بعض الصور الّتي تعكس اصطياد سمك كبير الحجم في غزّة، وهذا أيضاً أمر ملفّق لأنّ هذه الأسماك هي أسماك التونة الكبيرة الحجم والرّخيصة الثمن، وتخرج إلى الشواطئ في أوقات معيّنة من العام".
وما زال الصيّاد حسن مراد (26 عاماً) يذكر حادثة إطلاق النار والاعتقال الّتي تعرّض لها برفقة صيّادين اثنين آخرين، خلال صيدهم الأسماك في أغسطس من عام 2013، وقال مراد لـ"المونيتور": "لقد كنا نصطاد الأسماك، حيث هاجمتنا زوارق إسرائيليّة وأطلقت النّار علينا، ممّا أدّى إلى إصابتنا بجروح. وعندها، أجبرنا الجنود على خلع ملابسنا، وقيّدوا أيادينا وعصبوا أعيننا، ثم تمّ قطرنا برفقة مركبنا إلى ميناء أسدود الإسرائيليّ".
وأوضح أنّ السلطات الإسرائيليّة أفرجت عنهم بعد ثماني ساعات من التّحقيق، ولكن من دون إعادة قاربهم إليهم، الأمر الذي كبّدهم خسارة كبيرة وقطع مصدر رزقهم، وأجبرهم على الرّحيل عن مهنة الصيد والبحث عن عمل آخر.
وأكّد مدير المركز الأورومتوسطيّ لحقوق الإنسان الدكتور رامي عبدو أنّ السلطات الإسرائيليّة تتعمّد منع الصيّادين الغزيّين من ممارسة عملهم بحريّة وفي شكل آمن، وقال لـ"المونيتور": "هذا المنع تترافق معه ممارسات مهينة، من بينها إجبار الصيّادين على التعرّي في شكل كامل أو النزول إلى مياه البحر في ظروف جويّة قاسية ومصادرة ممتلكاتهم اللاّزمة لممارسة عملهم واعتقالهم في شكل تعسفيّ والتّحقيق معهم لساعات طويلة وابتزازهم من قبل المخابرات الإسرائيليّة للتّعاون معهم".
ووفقاً لاتفاقيّة أوسلو الموقّعة بين السلطة الفلسطينيّة وإسرائيل، يتوجّب السماح للصيّادين الفلسطينيّين الصيد حتّى مسافة 20 ميلاً بحريّاً، وقد سمح الجيش الإسرائيلي في البداية بالصيد في مساحة امتدّت حتى 12 ميلاً بحريًا فقط.
وعلى مرّ السنوات، قرر رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو في مارس من عام 2013 تقليص مسافة الصيد إلى أقلّ من 3 أميال فقط.
ومن جهته، قال عيّاش: "قبل عام 2013، كان الصيّادون يصطادون أربعة آلاف طن من الأسماك، ولكن بعد فرض الإجراءات الجديدة لم تبلغ كميّة الأسماك 1500 طنّ في أفضل الظروف".
وأكّد أنّ قطاع الصيد مني بخسارة فادحة خلال العدوان الإسرائيليّ الأخير (7 يوليو – 28 أغسطس)، وقال: "أدّت الحرب إلى تدمير (39) غرفة خاصّة بالصيّادين في ميناء غزّة، و(52) قارباً صغيراً وكبيراً، وبلغت قيمة الخسائر (9) ملايين دولار".
إنّ الاعتداءات الإسرائيليّة على الصيّادين، ليست الوحيدة الّتي تجعل من مهنة الصيد في غزّة صعبة وخطيرة للغاية، فالطقس وسوء الأحوال الجويّة، يعدّان أيضاً خطراً آخر يواجه الصيّادين، ولكنّه يجلب الكثير من الأسماك إلى الشواطئ أيضاً.
وقال الصيّاد مفيد أبو ريالة (43 عاماً)، وهو صاحب الملامح الباردة: "إنّ سوء الأحوال المعيشيّة، تجعل الصيّادين مضطرّين لصيد الأسماك من أجل توفير لقمة العيش لأطفالهم، غير آبهين بالمخاطر الجمّة الّتي قد يتعرّضون لها بسبب شدّة الرياح وارتفاع الأمواج".
وأشار لـ"المونيتور" إلى أنّ الكثير من الصيّادين تعرّضوا للغرق خلال تحدّيهم للأمواج العاتية أو لتوقّف القلب بسبب البرد، خلال المنخفض الجويّ الّذي ضرب البلاد أخيراً.
وكان الصيّادان أحمد اللحّام (23 عاماً) وهيثم الأقرع (21 عاماً)، لقيا مصرعهما غرقاً في منتصف يناير الماضي، خلال المنخفض الجويّ، حيث رجّحت المصادر الطبيّة وفاتهما من جراء تعرّضهما لتوقّف القلب بسبب البرد القارس.
وفي الوقت الذي تندر فيه بروز فرص عمل في قطاع غزة بسبب الواقع الاقتصادي المرير، وأمام كافة هذه المخاطر والممارسات الإسرائيلية التي تمارس بحق الصيادين، يبقى الصياد الفلسطيني أمام خيارين أحلاهما مر، إما تحمل المخاطرة الشديدة للبحث عن لقمة عيش أسرته، أو ترك مهنة الصيد والبقاء عاطلاً عن العمل.