إنّ الحديث عن إصلاح المؤسّستين العسكريّة والأمنيّة لم يعد حديثاً عراقيّاً داخليّاً، إذ أنّه يمتدّ ليتحوّل إلى مطلب دوليّ، سبق أن ورد على لسان وزير الخارجيّة الاميركيّ جون كيري والرّئيس الفرنسيّ فرانسوا هولاند. وأشار إليه منسّق التّحالف الدوليّ في الحرب على تنظيم "داعش" الجنرال جون آلن.
وإنّ مطلب الإصلاح العسكريّ والأمنيّ عراقيّ في الدرجة الأولى، وهو مطلب كرديّ، و صرح رئيس اقليم وكردستان العراق للمونيتور بان العراق في امس الحاجة لإصلاح مؤسسته العسكرية والامنية.
كما إنّه من متبنّيات الأطراف السياسيّة السنيّة، وسبق أن كان محوراً لمطالب أوردها رئيس البرلمان سليم الجبّوري. هذا وإنّ الإصلاح الأمنيّ والعسكريّ هو جزء أساسيّ من متبنّيات الأطراف السياسيّة الشيعيّة، فطالب به السيّد عمّار الحكيم والسيّد مقتدى الصدر.
كما أنّ المرجع الدينيّ الأعلى آية الله السيّد علي السيستاني طالب أيضاً بهذا الاصلاح، واعتبره خطوة ضروريّة.
كلّ تلك الأمثلة تثبت حقيقة أنّ المؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة العراقيّة تحتاج إلى إصلاح حقيقيّ ومدروس ومنهجيّ، على أن يكون متّفقاً عليه عراقيّاً، وإن كانت هناك خلافات حول أسلوب الإصلاح وخطواته.
وهذه المطالب الملحّة تثبت أيضاً أنّ المنهجيّة التي سارت عليها الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة خلال المرحلة الماضية كانت خاطئة، وأدّت إلى ما أدّت إليه من انهيارات سمحت لتنظيم "داعش" بالتوسّع والتمدّد في الأراضي العراقيّة.
لقد كان رئيس الحكومة حيدر العبادي بدأ بالفعل بإجراء سلسلة تغييرات في المؤسّستين عبر عزل وإبعاد عدد من القادة وتعيين آخرين، ونالت هذه الخطوة تأييداً محليّاً ودوليّاً غير مسبوق.
ويبدو منطقيّاً، بحسب بعض الخبراء الأمنيّين، أن تبدأ أيّ عمليّة إصلاح من خلال إبدال القادة العسكرييّن والأمنيّين، وصولاً إلى القاعدة، لكن هذا الافتراض لا يمكن أن يكون قطعيّاً، إذا اخذنا في الاعتبار أنّ أزمة المؤسّستين العسكريّة والأمنيّة في العراق، لا تخصّ القادة فقط، بل تتعلّق ببنية المؤسّستين وبعلاقة هذه البنية التي يسود الكثير من مفاصلها الفساد والتّراجع وسوء التّخطيط والتّنفيذ، بخلل البناء بعد عام 2003، وخلل الأصول والمعايير قبل هذا التاريخ.
وعلينا أن نتذكّر جيّداً أنّ الحديث عن فساد هاتين المؤسّستين لم يكن غائباً في ظلّ نظام صدّام حسين، بل إنّ ذلك النظام هو من أسّس لإفسادهما، خصوصاً في فترة التسعينيّات من القرن الماضي.
واعترف اللواء المتقاعد حازم الدوري لـ"المونيتور" بهذه الحقيقة. كما اعترف بأنّ ظاهرة "الجنود الأشباح" (أيّ الذين يرشون الضبّاط مقابل السماح لهم بعدم الدوام في وحداتهم)، ظاهرة متفشّية واتّخذت منحى قانونيّاً في عهد النّظام السابق، الذي غض الطرف عن انتشار الرشى والابتزاز في المؤسّسات الأمنيّة أيضاً.
وقال الدوري: "لم نكن راضين كضبّاط محترفين على تحويل الضابط إلى سمسار لجنوده، فتلك كانت ضربة قاصمة شهدنا نتائجها في عام 2003،بسبب انهيار الجيش العراقي و نظام صدام حسين بعد حرب تحرير الكويت والحصار الاقتصادي، اضعف الروح المعنوية لهذا الجيش واصابه الفساد في حيز اقل مما ما حصل بعد عام 2003. لكن الجيش كان يتمتّع في حدود دنيا من الضبط العسكريّ في تلك المرحلة، استناداً الى تقاليد طويلة، وهذا ما يفتقر له الجيش الذي تمّ تأسيسه بعد عام 2003. وأخشى أن تفتقر إليه الجيوش التي سيتمّ تأسيسها في العراق بعد عام 2014".
وبالطّبع، غمز الدوري إلى قضيّة تشكيل قوّات "الحرس الوطنيّ" و"الحشد الشعبيّ" و"الصحوات" برعاية رسميّة، لكن هذه القضيّة هي في الواقع، نتيجة لضعف الجيش وقوى الأمن العراقيّ، لا العكس.
وقال المقدّم في الشرطة العراقيّة حسين الكعبي: "إنّ الشرطة العراقيّة الحاليّة هي امتداد لشرطة النّظام السابق، مع تبديل القادة والضباط، فالفلسفة والقوانين والآليّات، وحتّى انتزاع الاعترافات بالتّعذيب كأقصر الحلول، ممارسات سائدة ومتوارثة داخل المؤسّسة".
وإنّ حديث الكعبي يشير إلى قضيّة مفصلية، فإبدال قادة وضبّاط الجيش والشرطة السابقين، لم يقد إلى اصلاح المؤسّستين العسكريّة والأمنيّة اللّتين احتفظتا بأسلوب عملهما، رغم أنّ إعادة تأسيسهما بعد عام 2003 خضع إلى رقابة القوّات العسكريّة الأميركية ومستشارين أمنيين وإشرافهم وتدريبهم.
وفي الواقع، إنّ البدء بإبدال القادة أمر ضروريّ ومطلوب، لكنّه ليس حاسماً في تحقيق الإصلاح، الذي قد يتحقّق في إعداد دراسات حقيقيّة عن الخلل البنيويّ في المؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة، وصولاً إلى تحديد جوهر الأزمة وإعداد خطط قصيرة ومتوسّطة وطويلة المدى تشمل إصلاحات على مستوى القوانين التي تعمل في ضوئها المؤسّسات الأمنيّة، وعلى مستوى الضوابط التي يتمّ من خلالها اختيار المنتسبين والضباط ومعاييير التّدريب والتّأهيل والتّطوير.
إنّ إعداد خريطة طريق واضحة من شأنها القضاء على الفساد الذي كان سبباً أساسيّاً في نخر المؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة العراقيّة، متاح اليوم، في ضوء جديّة الحكومة العراقيّة برئاسة العبادي في المضي بخطوات الإصلاح.
والطريق قد يبدأ بخطوة تغيير بعض القادة الأمنيّين، لكنّه لن ينتهي بها بالتّأكيد، والمطلوب أن يمتلك العراق خطته الخاصّة لاستعادة أمنه وقوّة جيشه وقواه الأمنيّة.