مرّ أكثر من نصف قرن على عمليّة تهجير أهالي النوبة من أراضيهم جنوب مصر، من أجل بناء السدّ العالي، الذي كان يهدّد بإغراق عشرات القرى الواقعة خلفه، حيث بدأ العمل به عام 1959. وفي عام 1963، بدأ تهجير العائلات النوبيّة من قراها إلى قرى أخرى بعيدة عن السدّ.
ولم تكن هذه المرّة الأولى التي يتمّ فيها إبعاد النوبيّين عن أراضيهم من أجل بناء مشاريع تنمويّة. فالبداية كانت عام 1902 مع بناء خزّان أسوان، الذى ارتفع معه منسوب المياه خلف الخزّان، لتغرق عشر قرى نوبيّة، ويتمّ تهجير أهلها، والهجرة الثانية كانت أثناء التعلية الأولى لخزّان أسوان عام 1912، حيث ارتفع منسوب المياه، وغرقت ثماني قرى أخرى، وجاءت بعد ذلك التعلية الثانية للخزّان عام 1933، لتغرق معها عشر قرى أخرى، حتّى تمّ تهجير 18000 أسرة مع بناء السدّ العالي فى الهجرة الرابعة بين 18 أكتوبر/تشرين الأول 1963 و22 يونيو/حزيران 1964.
كان النوبيّون وما زالوا يطالبون بعودتهم إلى أراضيهم الأصليّة، ولم تتحقّق تلك المطالب حتّى الآن. فهل تطوّر هذا المطلب إلى الرغبة في الانفصال عن مصر لتكوين دولة مستقلّة بهم؟ جاءت الإجابة عن هذا التساؤل من الناشط والأديب النوبيّ حجّاج أدول الذي قال لـ"المونيتور"، إنّه لا يعقل أن يطالب أحد من النوبيّين بالانفصال عن مصر، فحتّى لو كانت هناك رغبة لدى البعض في الاستقلال، فالتوقيت الآن غير مناسب، لأنّ أمام النوبيّين مطالب أهمّ تتمثّل في العودة إلى ديارهم التي نقلوا منها، والحديث عن استقلال أو انفصال إنّما يضعف قضيّة العودة. ويضيف أدول أنّ من يشيعون فكرة انفصال النوبة عن مصر، إنّما يريدون إيصال هذه الرسالة إلى الشعب المصريّ، مشبّها مزاعم الانفصال بقضيّة معاداة الساميّة، فكلّما انتقد أحد تصرّفات دولة إسرائيل، قيل له إنّه يعادي الساميّة، وكذلك في مصر، كلّما تحدّث أحدهم عن حقّ عودة النوبيّين، قيل له إنّه يسعى إلى زعزعة أمن البلاد، ويطالب بالاستقلال، وذلك حتّى تسكت الأصوات المطالبة بحقّ العودة.
وبحسب الباحث في المركز المصريّ للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة اسماعيل الإسكندراني، فإنّ مصدر تلك الأقاويل هو جهّات أمنيّة كوّنت شبكة مصالح مع رجال الأعمال المستفيدين من عدم عودة النوبيّين. وتضمّ شبكة المصالح تلك ضبّاطاً كباراً في الجيش، يريدون الحصول على أراضي النوبة لأنّ قيمتها الاستثماريّة عالية. وبالتالي، فإنّهم يشيعون فكرة أنّ عودة النوبيّين إلى أرضهم، ستجعهلم على مقربة من نوبيّي السودان، وبالتالي سيؤسّسون تكتّلاً عرقيّاً في منطقة الجنوب، ويدعون إلى الانفصال عن مصر، فيتكوّن رأي عامّ في مصر معادّ لمطالب العودة إلى النوبة القديمة. وأوضح أنّ هناك من المسؤولين السياسيّين المصريين من يساند شبكة المصالح تلك، من خلال تصريحات تحذّر من إنشاء تجمّعات حول بحيرة ناصر الواقعة خلف السدّ، كما حدث في تصريح لوزير الموارد المائيّة، حين وصف إقامة تجمّعات زراعيّة أو سكنيّة حول البحيرة بالـ"كارثة"، وهي تصريحات غير صحيحة هدفها سياسيّ في الأساس. وأضاف الإسكندراني لـ"المونيتور" أنّ بعض الحركات النوبيّة شجّع على الاقتناع بفكرة أنّ لدى أهل النوبة رغبة في الانفصال عن مصر مثل حركة "كتالة"، التي تدعو إلى الكفاح المسلّح من أجل الاستقلال، والدفاع عن حقوق النوبة.
حركة "كتالة" المسلّحة
تأسسّت حركة "كتالة" في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، وتضمّ عدداً من سكّان النوبة، وأهمّ أهدافها، بحسب ما يقول الرئيس التنفيذيّ للحركة أسامة فاروق لـ"المونيتور"، الدفاع عن الحقّ النوبيّ، وردّ كرامة النوبيّين بأيّ وسيلة كانت، حتّى لو باستخدام السلاح، موضحاً أنّ الحركة ترفض تدويل القضيّة النوبيّة حتّى لا تتدخّل دول خارجيّة في شأن مصريّ، لكنّها في الوقت نفسه، لا تمانع اللجوء إلى المنظّمات الحقوقيّة الدوليّة للاستعانة بها في ردّ حقوق النوبيّين. وكانت الحركة هدّدت خلال فترة حكم الرئيس السابق محمّد مرسي بإعلان المنطقة من مدينة إسنا جنوب الأقصر وحتّى حلفا جنوب أسوان، منطقة نوبيّة مستقلّة، وبإشهار علم النوبة بألوانه الثلاثة: الأزرق الذى يمثّل النيل، والأصفر الذي يمثّل الصحراء الغربيّة، والأخضر الذي يمثّل الخضرة فى النوبة، وذلك اعتراضاً على عدم تمثيلها فى مجلس الشورى.
لكنّ الرئيس التنفيذيّ لـ"كتالة" أكّد أنّ الحركة أوقفت نشاطها منذ تولّي عبد الفتّاح السيسي رئاسة مصر عام 2014، معلناً دعم الحركة استقرار البلاد، وذلك لما لمسوه من رغبة صادقة على حدّ قوله من قبل السلطة الحاليّة للاستجابة إلى مطالب النوبيّين.
ومن الناحية العمليّة، يعود الناشط الحقوقيّ اسماعيل الإسكندراني للقول إنّ الواقع لا يدعم فكرة الانفصال عن مصر، لأسباب أهمّها أنّ المنطقة الواقعة خلف السدّ، والتي يريد النوبيّون العودة إليها لا تفصلها عن مصر تضاريس طبيعيّة، تجعلها بعيدة عن جسم الوطن، كما لا يوجد دعم خارجيّ يساند هذه الفكرة، حتّى تجمّعات النوبيّين في الخارج، في أميركا وأوروبّا، ليس لديها النيّة للقبول بفكرة الاستقلال النوبيّ، مؤكّداً أنّ كلّ دعوات نوبيّي السودان بتحويل منطقة النوبة بين مصر والسودان إلى دولة مستقلّة، تقابل بالرفض التامّ من النوبيّين في مصر.
ويؤكّد الإسكندراني أنّ كلّ ما يفعله أصحاب المصالح الذين يعيقون عمليّة إعادة النوبيّين إلى قراهم، بمن فيهم بعض النوبيّين المستفيدين من بقاء القضيّة معلّقة من دون حلّ، ليستمرّوا في الظهور إعلاميّاً، لن يستمرّ طويلاً بعد إقرار الدستور الجديد، الذي ينصّ في المادّة 236 على أنّه "تكفل الدولة وضع خطّة للتنمية الاقتصاديّة والعمرانيّة الشاملة للمناطق الحدوديّة والمحرومة، ومنها الصعيد وسيناء ومطروح ومناطق النوبة وتنفيذها، بمشاركة أهلها في مشاريع التنمية، وبأولويّة الاستفادة منها، مع مراعاة الأنماط الثقافيّة والبيئيّة للمجتمع المحلّي، خلال عشر سنوات من تاريخ العمل بهذا الدستور، وتعمل الدولة على وضع مشاريع وتنفيذها، تعيد سكّان النوبة إلى مناطقهم الأصليّة، وتنميتها خلال عشر سنوات، وذلك على النحو الذي ينظّمه القانون"، وهو ما يعتبر التزاماً من قبل الدولة عليها الوفاء به.