يراقب شرطي السير محمّد مختار والحسرة تملأ عينيه، طوابير موظّفي السلطة الفلسطينيّة الذين يصطفون عند مطلع كلّ شهر أمام مصرف فلسطين في وسط مدينة غزّة لتقاضي رواتبهم الشهريّة، فيما ينشغل زميله رائد الحلبي في تنظيم حركة سير السيّارات من حولهم، لضمان حصولهم على رواتبهم في شكل منظّم وآمن.
إنّ مختار والحلبي شرطيّان وظّفتهما حكومة "حماس" في غزّة، بجانب نحو 17 ألف موظّف عسكريّ يعملون في وزارة الداخليّة والأمن الوطنيّ بغزّة، بعد استنكاف موظّفي السلطة الفلسطينيّة عن العمل من جراء سيطرة الأولى عسكريّاً على القطاع في حزيران 2007، وهو الأمر الذي جعلهم موظفين غير شرعيّين في نظر السلطة.
وفي هذا الإطار، قال مختار لـ"المونيتور": "رغم نهاية حكم "حماس" في غزّة وبدء عهد حكومة التّوافق، إلاّ أنّ الموظّفين العسكريّين في غزّة ما زالوا غير شرعيّين في نظر هذه الحكومة، وهذا الأمر جعلنا لا نتقاضى راتباً منذ تشكيلها في يونيو الماضي، رغم بقائي في عملي".
وأشار إلى أنّ هذا الأمر جعله "متسوّلاً" بين أقربائه من أجل الحصول على المال، لإعالة أسرته المكوّنة من 6 أفراد.
ولقد أدّت هذه الأزمة بنقابة الموظّفين العموميّين إلى اتّخاذ إجراءات تصعيديّة عدّة تهدف إلى تعطيل بعض الخدمات التي تقوم بها الوزارات في غزّة، من بينها الإضراب عن العمل، كما قال رئيس نقابة الموظّفين في غزّة محمّد صيام.
ونفّذ موظّفو غزّة، في الثامن عشر من الجاري، إضراباً شاملاً عن العمل أُغلقت خلاله أبواب كلّ المؤسّسات الحكوميّة والوزارات. وفي هذا السّياق، قال صيام خلال حديثه لـ"المونيتور": "إن هذا الإضراب شمل جميع الموظّفين المدنيّين والعسكريّين أيضاً".
وأشار إلى أنّ حكومة التّوافق تمارس التميّيز العنصريّ بين الموظّفين المدنيّ والعسكريّ.
وأكّد أنّ نقابته لن تقبل باستمرار هذا التميّيز، وأنّ خطواتها التصعيديّة ستستمرّ حتى يتمّ دمج جميع الموظّفين في غزّة، وفقاً للسلّم الماليّ والإداريّ الخاصّ بموظّفي السلطة الفلسطينيّة.
وكانت حكومة التّوافق قد صرفت في نهاية أكتوبر الماضي، مبلغ 1200 دولار لكلّ موظّف مدنيّ في غزّة، والبالغ عددهم 24 ألفاً، كجزء من رواتبهم المتأخّرة، فيما استثنت الحكومة الموظّفين العسكريّين من هذه الرواتب.
وهذا الأمر جعل حركة "حماس" تصرف دفعة ماليّة للموظّفين العسكريّين في غزّة، في التّاسع من الشهر الماضي، بلغت ألف شيكل كحدّ أدنى (260 دولاراً) لكلّ موظّف، وهي المرّة الأولى التي يتلقّى فيها الموظّفون العسكريّون أموالاً كجزء من راتبهم الشهريّ منذ تشكيل حكومة التّوافق.
ومن جهته، قال يوسف رزقة، وهو المستشار السياسيّ لرئيس حكومة "حماس" السّابقة اسماعيل هنيّة: "إنّ هذه الأموال التي صرفتها "حماس" للموظّفين العسكريّين البالغ عددهم 17 ألف عنصر، هي جزء من الضرائب التي تجنيها السلطات في غزّة، إذ لا يتمّ إرسالها إلى حكومة التّوافق بسبب إصرار الأخيرة على عدم التّعامل مع هذه السلطات أو الاجتماع معها".
وأوضح رزقة خلال حديثه مع "المونيتور" أنّ صرف حركة "حماس" هذه الرواتب، "لا يعني أنّها ستتكفّل بهذا الإجراء كلّ شهر، لأنّ ذلك من مسؤوليّة حكومة التّوافق، وفقاً لما تمّ في اتفاقيّة المصالحة"، مشيراً إلى أنّ حكومة التّوافق لم تصرف أيّ دفعات للموظّفين العسكريّين بسبب عدم رغبتها في تحمّل المزيد من الأعباء.
وأشار رائد الحلبي لـ"المونيتور" إلى أنّ هذه الدّفعة الماليّة التي صرفتها "حماس" للموظّفين العسكريّين، لم تستقرّ في جيبه 10 دقائق، بسبب التزاماته الكبيرة وتسديد ديونه المتراكمة، لافتاً إلى أنّه لم يتبق منها سوى بضعة شواكل فقط، قرّر ادّخارها من أجل دفع أجرة المواصلات خلال ذهابه إلى عمله وعودته إلى منزله.
ومن جهته، أكّد مصدر مسؤول في وزارة الداخليّة أنّ الخطوات التصعيديّة الأولى التي اتّخذتها العناصر الأمنيّة، هي إضراب الشرطة القضائيّة عن العمل يومين أسبوعيّاً، وقال لـ"المونيتور": "إنّ الشرطة القضائيّة بدأت بالإضراب الجزئيّ عن العمل يومين فقط، من أجل عدم تعطيل عمل المحاكم في شكل كامل، حيث لا تستطيع العمل من دون وجود العناصر الأمنيّة. والآن، تطوّر هذا الاحتجاج ليشمل جميع أفراد العناصر الأمنيّة العاملة في وزارة الداخليّة، حيث تقرّر تقليص دوام هذه العناصر إلى 4 أيّام أسبوعيّاً".
ومن جهته، قال المصدر في وزارة الداخليّة: "في حال استمرّت الأزمة، أخشى أن تتّخذ قرارات أخرى يصبح تأثيرها سلبيّاً على حياة المواطنين".
وأشار إلى أنّ هناك توجّهاً آخر يقضي بإقامة اعتصام مفتوح أمام مقرّ المجلس التشريعيّ الفلسطينيّ قريباً.
ولفت يوسف رزقة إلى أنّ حكومة التّوافق تنصّلت عن التزاماتها في دمج موظّفي غزّة في السلّم الوظيفيّ (الإداريّ والماليّ) الخاصّ بالسلطة الفلسطينيّة، مؤكّداً أنّ استمرار هذه الأزمة "سيجعل من اتّفاق المصالحة كأنّه لم يكن".
أمّا وزير العمل في حكومة التّوافق الوطنيّ مأمون أبو شهلا فأشار إلى أنّ حكومته "لم تتنصل عن التزاماتها، وهي ماضية في العمل على ترتيب أوضاع الموظّفين المدنيّين والعسكريّين في غزّة"، وقال لـ"المونيتور": "هناك لجنة معدّة من قبل جهات عدّة منها دولة قطر والأمم المتّحدة والاتّحاد الأوروبيّ وبعض المنظّمات الدولية تقوّم وتدقّق في ملفّات الموظّفين المدنيّين في غزّة".
وردّاً على سؤال عن سبب عدم صرف دفعة ماليّة للعسكريّين إسوة بالمدنيّين، اكتفى بالقول: "كلّ هذه القضايا سيتمّ البتّ فيها في القريب العاجل".
وبالنّسبة إلى محمد صيام، فإنّ نقابته "ملّت من سماع هذه الوعود"، وطالب بضرورة تحديد مدّة زمنيّة لعمل هذه اللّجنة التي شكّلتها حكومة التّوافق لتسوية أوضاع الموظّفين.
وحتى ذلك الحين، سيقوم ضباط الشرطة مثل حلبي بالاستجداء لتلبية احتياجاتهم، وقال بنبرة استهجان: "عندما أضع يدي في جيبي وأجد أنّ بضعة الشواقل المتبقية قد اختفت، فلن أذهب إلى العمل".