تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الزّحف العمراني يهدّد تراث بيروت الأثري

يجري تشييد مواقع البناء الجديدة في بيروت من دون أخذ التراث الأثري للعاصمة في عين الاعتبار.
DSC_0058.JPG

تُعتبَر العاصمة اللّبنانية واحدة من أقدم المدن في العالم مع تاريخ يعود إلى أكثر من 5,000 عام. قام كلّ من الفينيقيين والهيلينستيين والرومان والبيزنطيين والعرب والصليبيين والعثمانيين ببناء العمارات والعيش في بيروت، تاركين طبقات وطبقات من الحضارات التي لم ننتهِ من اكتشافها حتّى الآن. رافعات البناء مشهد مؤلوف في بيروت منذ نهاية الحرب الأهليّة، واليوم، يسارع مستثمرو القطاع الخاص إلى محو البقايا القديمة من الأراضي.

أي مدينة يجب أن نبني؟ منذ وقت طويل وهذا القرار لم يعد في يد المواطنين اللّبنانيين. على سبيل المثال، قامت سوليدير، وهي شركة مساهمة لبنانية أسّسها رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، بإبرام اتّفاقية مع الحكومة في العام 1994 لإعادة إعمار منطقة وسط بيروت. وقالت ليلى بدر، عالمة آثار تدرّس في الجامعة الأميركية في بيروت، للمونيتور، "تخيّل مدينة مدمّرة، من دون مياه أو كهرباء، وبعض اللاجئين".

"أنفقت سوليدير مليار دولار لإعادة إعمار أكبر مساحة ممكنة بأسرع وقت ممكن، بدءًا بشبكات الأنابيب والكهرباء. وضعوا خطّتهم من دون أخذ الجانب الأثري في عين الاعتبار". وبعد دعوة دوليّة من جانب اليونسكو لرؤية ما كان يحدث على الأرض، تدخّل في المشروع علماء آثار من جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى الجامعة اللبنانية، والجامعة الأميركية في بيروت، والمعهد الفرنسي، ما دفع "بالمطوّرين إلى القيام بالحفريّات وتسديد كلفة حفريّاتهم الخاصّة"، وفق ما قالت بدر. ونتج حلّ خاصّ من المرسومين 2786/92 و4830/94: مقابل المعالم أو البقايا الأثرية الهامّة الموجودة في أراضي سوليدير والتي يتمّ الحفاظ عليها في مكانها، على الشركة التّعويض على المطوّر عبر إعطائه أرضًا بديلة لا يترتّب عليها أيّ كلفة إضافيّة بالنسبة إليه أو إلى الدولة اللبنانية.

الناشطون المنخرطون في المحافظة على بقايا بيروت التاريخية يركّزون على الدّمار الذي لحق بها. قال رجا نجيم، الذي يقود المعركة القانونية لجمعية حماية التراث اللبناني، للمونيتور، "جرت حفريّات في 360 موقعًا في بيروت منذ تسعينيّات القرن الماضي. واليوم، لم يتبقّ سوى سبعة في منطقة سوليدير، هي التلّ الفينيقي، والسّراي الصّغير، والحيّ الفينيقي تحت الأسواق، وجزء من الميدان الروماني، والحمّامات الرومانية، والزاوية، وحديقة السّماح؛ وفي معظم الأحيان لا نجد مدخلاً، ولا دليلاً ولا يمكننا حتّى الحصول على أيّ معلومات ذات صلة.

وعندما سأل المونيتور المسؤول الإعلامي في شركة سوليدير نبيل راشد عن هذا الموضوع، أجاب "إنّ العملية بدأت كخطّة تهدف إلى الحفاظ على تاريخ المدينة وتراثها ... لإعادة تأهيل بيروت كوسط تجاري، ومقصد سياحي ومنطقة سكنية فاخرة. تتواصل الاكتشافات الأثرية في أربعة مواقع هامّة جرى الحفاظ عليها في مكانها. لم يجر بعد ترميم التل الفينيقي وحديقة السماح، لكن باتت الحمّامات الرومانية وثلاث حفريّات صغيرة أخرى جاهزة".

بناء عبر التاريخ

في منطقة وسط بيروت وحولها، وهي الجزء الأغلى ثمنًا من المدينة، وُضِعت ألواح حماية مرتفعة تحجب المنظر داخل مواقع البناء. تقوم الأعمال هناك بأغلبها على الحفر عميقًا للبحث عن قطع أثرية وبنيات قديمة، وتقع ضمن مسؤولية المديرية العامة للآثار، وهي الوحدة التقنية التابعة لوزارة الثقافة المسؤولة عن حماية جميع مواقع التراث الوطني في لبنان، ودعمها وإجراء الحفريّات فيها. عندما يعثر مستثمر يخطّط لتشييد بناء في موقع معيّن على أمر قد يكون له قيمة تاريخية، يتم إرسال عالم آثار وفريق للحفر.

قال جان ياسمين، مدير مشروع المديرية العامّة للآثار في مجلس الإنماء والإعمار، للمونيتور "أمامنا ثلاثة حلول: إذا لم تكن المكتشفات قيّمة في مجملها، يتمّ تفكيكها وإعطاؤها للمديرية العامة للآثار؛ أما إذا وجدنا معلمًا أثريًا مهمًا جدًا، فيجب الحفاظ عليه في مكانه، وعلى الدّولة أن تصادر الموقع؛ وإذا لم يكن سوى جزء من المكشتفات مهمًا، يتمّ الحفاظ عليه كجزء من المشروع أو عرضه في موقع آخر. يعتمد الأمر بشكل أساسي على القيمة العلميّة وسيولة المطوّرين، لكنّ الخبراء الذين يضعون التّوصيات النهائيّة لكلّ موقع ينتمون إلى المديرية العامة للآثار التابعة للدولة".

من هم إذًا هؤلاء الخبراء؟ قال نجيم، "يعمل موظفو سوليدير السابقون مع وزارة الثقافة حاليًا، وهم معتادون على إعطاء تبريرات لهدم المواقع التاريخية".

اطّلع المونيتور على موقعي حفريّات في الصّيفي: حدائق الصّيفي، وهما قسمان يمتدّان على مساحة 2,500 متر مربّع، وقسم أصغر حجمًا أمام فندق صيفي سويتس. في "المنطقة 1" من الموقع الأوّل، وجد جورج هيبي وفريقه من الجامعة اللبنانية أضرحة هيلينستية بالإضافة إلى معلم أثري روماني. وفي "المنطقة 2"، اكتشفوا أنابيب وبعض الأغراض التي تعود إلى نهاية العصر الهيلينستي، وجرى إعطاؤها للمديرية العامة للآثار للمباشرة في البناء. كشف الموقع الثاني عن فرن ضخم للفخّار، وبعض الآثار لنشاط صناعي وواد عميق؛ وقد جرى تفكيك الفرن وإعطاؤه للمديرية العامة للآثار. قال هادي شويري، وهو عالم آثار يدرّس في الجامعة اللبنانية، للمونيتور، "هذا اكتشاف هام جدًا قد يكشف لنا من أين أتت الخزفيات التي وُجِدت في بيروت، بفضل الشّهادات التي وجدناها مع الفرن".

نزاع على التاريخ

لا يزال علماء الآثار يتباحثون بشأن مواقع أخرى جرى تطويرها، أحدها هو ما يُطلَق عليه اسم المرفأ الفينيقي، أو موقع BEY 194، العقار 1398 (ميناء الحصن). صنّفه في العام 2011 وزير الثقافة آنذاك سليم وردة كمعلم أثري. وفي شهر حزيران/يونيو 2012، قادت المديرية العامة للآثار تقريري تقييم جديدين، صدر الأوّل عن رالف بيترسون، والثّاني عن اللّجنة الاستشاريّة العلميّة الخاصّة بوزير الثقافة، وقد أصدرا تقريرًا مختلفًا تمامًا عن تقرير هشام صايغ، عالم الآثار الأوّل الذي عمل على الموقع. نفى التّقرير الجديد مكتشفات صايغ، مع أنّ الكثير من الخبراء الدوليين أرسلوا تقاريرهم الخاصّة إلى المديرية العامة للآثار يطلبون منها إنقاذ الموقع. في ذلك الوقت، أصدر وزير الثقافة الجديد، غابي ليون، مرسومًا يسمح بهدم الموقع. وقال نجيم "لم يشأ المطوّرون الحفاظ على الموقع لأنّه كان منقوشًا في الصّخر، ويستحيل بالتالي تفكيكه أو البناء فوقه. هدموا كلّ شيء عند السابعة صباحًا، في حين صدر مرسوم الوزارة عند الثانية عشر ظهرًا".

قال أسعد سيف، مسؤولٌ عن التنقيبات الأثرية اللبنانية، للمونيتور، "لم يستطع علماء الآثار الأوَل تفسير الموقع، وتسرّبت معلومات مغلوطة إلى الصحافة، ولذلك طلبت الوزارة من فريق ثان أن يعيد التقييم. كمحترف، لا يجوز تحفيز الأيديولوجيّة قبل الفائدة العلمية من دون الدّخول في منطق الإيجابيّات والسلبيّات". ويشاركه رأيه هذا هانز كورفرز، وهو عالم آثار هولندي يعمل لصالح سوليدير منذ العام 1992 وقد ساهم في التقرير الثاني حول العقار 1398. قال "لا يتوجّب على عالم الآثار أن يكون ناشطًا، يمكنه إعطاء المعلومات والبيانات للمجتمع المدني، والمراسلين، والجمعيات، لكن ليس من واجبه دفع السياسيين إلى أي خطوة. تأخذ أحيانًا المديرية العامة للآثار برأي المطوّرين، وأحيانًا أخرى لا تفعل ذلك، وفي بعض الحالات يمارس المطوّرون ضغطًا كبيرًا. ... لا يحصل عالم الآثار أبدًا على الاحترام مقابل التفسير الذي يقدّمه والذي يشكّل واجبه الوحيد. من الصعب جدًا إقناع الناس بإنفاق المال على البقايا الأثرية؛ لدينا أولويّات أخرى في لبنان. على المرء اتّخاذ القرار، فلا يمكن المحافظة على كلّ شيء".

المال عامل قويّ في الوضع الحالي. وبحسب سيف، "سوليدير لا تعطي الشارين معلومات دقيقة؛ فهي ترفض إجراء عمليات مسح في وقت مبكر خوفًا من عدم بيع عقاراتها. تعتمد المديرية العامة للآثار موقفًا وقائيًا وداعمًا عند مقاربة أصحاب الملك. نحن نُسرّ عندما يرون الآثار أصولاً بحدّ ذاتها، أي قيمة مالية إضافية. منذ العام 2005، يدمج المطوّرون الحفريات في عملهم ويخصّصون أموالاً إضافية للحفاظ على البقايا الأثرية وضمّها إلى أبنيتهم".

الوضع لا يحتمل بالنسبة إلى بعض علماء الآثار. رفع مؤخّرًا وزير الثقافة السابق دعوى قضائية على ناجي كرم، ألد أعداء كورفرز، بتهمة التشهير. وقال كرم "شاركت في حفريّات في التّسعينيّات، لكنّ سوليدير لم ترد إعطاء سوى خمسة عقارات لعلماء الآثار. لكنّ هذه العقارات كانت مساحات عامّة، لا ملكيّة خاصّة بهم. سألت عن بروتوكول محدّد. كان هناك اتّفاق بين المديرية العامة للآثار، واليونسكو، وسوليدير لتغطية المزيد من المساحات، وكان بإمكاني الاستمرار بالعمل هناك شرط الالتزام بالصمت. ... لكن عندما رأيت جرافّة تمزّق فسيفساء بطول 19 مترًا، لم أستطع [الالتزام بالصمت]. تعرّضت للتّهديد، وطُردت في نهاية المطاف. لن ألتزم بالصمت".

يبرز بالفعل صراع حول الآثار في بيروت ولبنان. ينخرط المجتمع المدني عبر إنشاء منظّمات غير حكومية وجمعيات تحاول جمع البيانات وتنبيه الرأي العام إلى المواقع التي يتم الحفر فيها، وإلى إخفاء السياسيّين للمعلومات وإلى تدمير المطوّرين للتراث، قبل جمع الناس للاحتجاج. ومن بين هذه المنظّمات جمعيّة حماية التراث اللبناني التي طبّقت خريطة تشاركية تهدف إلى إبقاء الشعب اللبناني مستنيرًا. لكن مثل هذه التّحركات محدودة نظرًا إلى صعوبة جمع عدد كاف من الناشطين والمواطنين حول قضية قد تبدو بعيدة جدًا عن انشغالات الحياة كالمياه والكهرباء.

 

[ملاحظة رئيس التحرير: جرى تحديث هذا المقال ليشمل معلومات إضافية حصلنا عليها بعد النشر، توضّح المرسومين 2786/92 و4830/94 فضلاً عن تقارير المديرية العامة للآثار. بالإضافة إلى ذلك، يتعرّض ناجي كرم حاليًا للمقاضاة من قبل وزير الثقافة لا وزارة الثقافة.]

Join hundreds of Middle East professionals with Al-Monitor PRO.

Business and policy professionals use PRO to monitor the regional economy and improve their reports, memos and presentations. Try it for free and cancel anytime.

Already a Member? Sign in

Free

The Middle East's Best Newsletters

Join over 50,000 readers who access our journalists dedicated newsletters, covering the top political, security, business and tech issues across the region each week.
Delivered straight to your inbox.

Free

What's included:
Our Expertise

Free newsletters available:

  • The Takeaway & Week in Review
  • Middle East Minute (AM)
  • Daily Briefing (PM)
  • Business & Tech Briefing
  • Security Briefing
  • Gulf Briefing
  • Israel Briefing
  • Palestine Briefing
  • Turkey Briefing
  • Iraq Briefing
Expert

Premium Membership

Join the Middle East's most notable experts for premium memos, trend reports, live video Q&A, and intimate in-person events, each detailing exclusive insights on business and geopolitical trends shaping the region.

$25.00 / month
billed annually

Become Member Start with 1-week free trial
What's included:
Our Expertise AI-driven

Memos - premium analytical writing: actionable insights on markets and geopolitics.

Live Video Q&A - Hear from our top journalists and regional experts.

Special Events - Intimate in-person events with business & political VIPs.

Trend Reports - Deep dive analysis on market updates.

Text Alerts - Be the first to get breaking news, exclusives, and PRO content.

All premium Industry Newsletters - Monitor the Middle East's most important industries. Prioritize your target industries for weekly review:

  • Capital Markets & Private Equity
  • Venture Capital & Startups
  • Green Energy
  • Supply Chain
  • Sustainable Development
  • Leading Edge Technology
  • Oil & Gas
  • Real Estate & Construction
  • Banking

We also offer team plans. Please send an email to pro.support@al-monitor.com and we'll onboard your team.

Already a Member? Sign in

Start your PRO membership today.

Join the Middle East's top business and policy professionals to access exclusive PRO insights today.

Join Al-Monitor PRO Start with 1-week free trial