بشيء من الإحباط وبعض المرارة، عاد الوفد اللبنانيّ الرسميّ من زيارته إلى بغداد وإربيل قبل أيّام. قام الوفد الذي ترأّسه وزير الخارجيّة اللبنانيّة جبران باسيل، بزيارة عاصمة العراق كما عاصمة إقليم كردستان العراقيّ، للتباحث مع المسؤولين فيهما، حول كيفيّة المساعدة دبلوماسيّاً وإعلاميّاً، لمواجهة تنظيم "الدولة الإسلاميّة"، خصوصاً بعد الجرائم ضدّ الإنسانيّة وجرائم الحرب، التي يرجّح أن يكون مسلّحو هذا التنظيم السنّي الأصوليّ، قد ارتكبوها في مناطق الموصل وشمال غرب العراق، كما في مناطق سهل نينوى التي احتلّوها لاحقاً. يذكر أنّ باسيل كان قد استصدر قراراً من الحكومة اللبنانيّة جمعاء، ليتقدّم لبنان بطلب لدى المدّعي العام لمحكمة الجزاء الدوليّة، للتحرّك والتحقيق في الأخبار الواردة من تلك المناطق عن ممارسات يمكن أن تكون موضع ملاحقة جنائيّة دوليّة، وهو ما تشمله صلاحيّة المحكمة المذكورة بموجب نظام روما المؤسّس لها. كشف أحد أعضاء الوفد الرسميّ الذي رافق باسيل لموقعنا أنّ "الأمور في بغداد لا تزال في مرحلة ضبابيّة بامتياز". وقال: "لا شيء واضحاً حيال ماذا ستفعله السلطات العراقيّة. لا تصوّر ولا رؤية ولا أيّ تخطيط لمواجهة خطر "الدولة الإسلاميّة"".
وينقل عضو الوفد عن المسؤولين العراقيّين الذين التقاهم وزير الخارجيّة اللبنانيّة والوفد المرافق له، أنّ "كل الجهد المبذول في بغداد الآن، منصبّ على أمرين اثنين لا غير: أوّلاً تشكيل الحكومة العراقيّة الجديدة، على أن تكون جامعة، وبالتالي على أن يكون فيها شريك سنّي ممثّل ووازن. وثانياً إبعاد خطر وصول "الدولة الإسلاميّة" إلى أبواب بغداد". ويقول: "أكثر من ذلك، لا يمكن تلمّس أيّ شيء في بغداد، حتّى أنّ بعض المسائل التي طرحها الوفد اللبنانيّ بدت وكأنّها من كوكب آخر حيال تفكير المسؤولين العراقيّين وأولويّاتهم، خصوصاً قضيّة مسيحيّي العراق، أو التوجّه إلى المحافل والقانون الدوليّ الإنسانيّ لإثارتها ومتابعتها". غير أنّ عضو الوفد اللبنانيّ يضيف: "المسؤولون في بغداد يتعاملون مع قضيّة "الدولة الإسلاميّة" وكأنّها ليست مسألة عرضيّة أو عابرة أو زائلة قريباً، بل يتصرّفون وكأنّ "الدولة الإسلاميّة" باقية في الزمن القريب والمتوسّط. يقولون بصراحة أنّ الدعم الدوليّ لبغداد اليوم يقتصر على تقديم السلاح والذخائر والعتاد الحربيّ".
لكن في المقابل، يبقى السؤال: من سيحارب تنظيم "الدولة الإسلاميّة" على أرضها؟ الأكيد أنّ أيّ جيش خارجيّ، وخصوصاً جيش أيّ من الدول الغربيّة، لن ينزل رجاله على أرض شمال غرب العراق. في المقابل، يبدو التردّد واضحاً لدى الشيعة العراقيّين في تحمّل عبء محاربة السنّة على أرض العراق. قبل أعوام، لجأوا إلى مسلّحي "الصحوات"، أي إلى مسلّحين سنّة قريبين من سلطة بغداد، أو من العشائر السنيّة الرافضة لسيطرة مسلّحي تنظيم "القاعدة" على مناطقهم. فكانت المعارك على الأرض سنيّة - سنيّة. اليوم، لم يعد هناك وجود لـ"الصحوات". في المقابل لا يبدو أنّ الشيعة يرون أيّ مصلحة لهم في محاربة السنّة على أرض هؤلاء. يفضّلون الدفاع عن مناطقهم على تخوم بغداد، وترك الأمور لما يمكن أن تسفر عنه سيطرة "الدولة الإسلاميّة" على المناطق السنيّة، من خلافات داخليّة، أو من تهديد بالتمدّد جنوباً عبر الأنبار، بما قد يهدّد السعوديّة والأردن. عندها، يعتقد الشيعة أنّه يمكن لتطوّر كهذا أن يبدّل المشهد الإقليميّ والدوليّ. ويمكن جرّاءه أن يظهر طرف خارجيّ ما مستعدّ لدفع ثمن المعركة، أو لقبول تلزيم خارجيّ بخوض المعركة العراقيّة. وفي هذا السياق، يتابع عضو الوفد اللبنانيّ لموقعنا أنّ "البحث مع مسؤولي بغداد تناول الاحتمالات النظريّة لوضعيّة كهذه، فبدا أنّ ليس في الأفق أيّ احتمال باستثناء تركيا".
لكن، هل تدخل القوّات المسلّحة التركيّة شمال غرب العراق؟ وبأيّ ثمن؟ وما انعكاس أيّ تدخل عسكريّ تركيّ في العراق على وحدة هذا البلد التي باتت هشّة جدّاً اليوم؟ وما ستكون عواقب احتمال كهذا على مستوى موازين القوى في المنطقة؟ هل تقبل الرياض بانتقال الدور السنّي الإقليميّ إلى أنقره، في قضايا بغداد العربيّة المحاذية لحدودها؟ أسئلة لا يبدو أن أحداً يملك الإجابة عليها. وفي الانتظار، يتابع البغداديّون حياتهم العاديّة بالرتابة نفسها التي عاشوها طيلة الأعوام الماضية: خلافات داخليّة، صراعات نفوذ، اتّهامات بالفساد بالجملة، ولا شيء يوحي أنّ دولة عراقيّة قويّة ستقوم في المدى المنظور. حمل الوفد اللبنانيّ الرسميّ معه تمنّياً أو ما يشبه الاقتراح على سلطات بغداد، بأن تعمل على جذب المسيحيّين النازحين من مناطق سيطرة "الدولة الإسلاميّة"، نحو مناطق تسيطر عليها سلطات بغداد، حيث يظلّ هؤلاء مرتبطين بوطنهم الأمّ، ويبقون أقرب إلى قراهم ومساقط رأسهم، ويكونون أكثر انشداداً إلى حلم العودة إلى بيوتهم، وأقلّ عرضة لميول الهجرة النهائيّة من العراق. لكنّ الكلام اللبنانيّ لم يبلغ القلب العراقيّ، فأولويات بغداد في مكان آخر.