إنّ الهدوء الذي ساد قطاع غزّة خلال التّهدئة المستمرّة لثلاثة أيّام، يبدو كضيف غريب، خصوصاً في الأماكن التي كانت عبارة عن ساحة معارك، فترى فوق ركامها أحياء يمشون بعد أن اختفت رائحة الموت وأصوات القصف. كما بدت الحدود الشرقيّة التي تواجدت فيها "المونيتور" في اليوم الأوّل للتّهدئة في 11-8-2014 شاسعة وأفقاً ذهبيّاً أمام العين، بعد أن كان مجرّد الاقتراب منها انتحاراً.
إنّ انسحاب الخطر من تلك المناطق، يبرز مقابله تشرّد العائلات التي عادت لتتفقد منازلها ومعاناتها، إذ أنّ بعضها لم يكن لاجئاً يوماً، كما هو حال عائلة الكفارنة في شارع أبو عودة بمدينة بيت حانون، حيث يتجسّد المعنى الكامل لعبارة "قتل الجمال"، خصوصاً أنّ المدينة التي كانت تغلب عليها الأشجار والمباني المنخفضة أصبحت أقرب إلى ورشة بناء مهجورة.
وفي هذا المجال، قالت الحاجة دلال الكفارنة (62 عاماً)، وهي تجلس على عتبة منزلها، التّفصيل الوحيد الذي لم تطاوله القذيفة، لـ"المونيتور": "عدنا اليوم منذ الصباح لتفقد البيت، فانظري إليه. لقد حضرت حروباً عدّة في حياتي، ومنها حروب 1956 و1967و2008 و2012، ولم يحدث لعائلتي، كما حدث لنا في هذه الحرب. لقد قصفوا منازلنا وخفننا واستشهد أقارب لنا".
ويبدو دخول منزل الحاجّة دلال صعباً للغاية، بسبب تكوّم الحجارة والزجاج وأسياخ الحديد، وهذا ما يجعل من سقوط العابر حتميّة، لا مفرّ منها.
وأشارت الحاجّة دلال إلى "ما كان يشبه أثاثاً أنيقاً"، وقالت: "لقد قضي على كلّ ما بنيناه طيلة حياتنا، لا يزال أبنائي يسدّدون القروض التي اقترضوها لبناء هذا البيت المكوّن من أربع طبقات".
ولفت إلى أنّها عندما رأته في التّهدئة الأولى ارتفع ضغطها بفعل الصدمة وأصيبت بجلطة".
هناك شجرة وحيدة في الشارع، ومن خلالها تعرّف ابن الحاجّة دلال الكبير اسكندر الكفارنة (40عاماً) إلى منزلهم، إذ قال: "في الزيارة الأولى، لم أستطع التعرّف إلى منزلي، لولا هذه الشجرة التي ميّزت ما بقي منه".
تتخلّل كلّ بضعة أمتار حفرة كبيرة من الرّكام، وفي ذلك إشارة إلى مكان سقوط القنبلة، وقال ابن عم اسكندر أيمن الكفارنة (42عاماً) الذي دمّر منزله أيضاً: "لقد قصفت الطائرات منازلنا من خلال إلقاء براميل متفجّرة، التي لم أسمع عنها إلاّ عبر أخبار سوريا".
وتبدو هذه البراميل قادرة على تفجير أحياء بكاملها، فهي تحمل أطناناً من المتفجّرات، وقال أيمن، وهو يشير بيده: "رأيت في شارع أبوعودة حوالى أربع حفر، وفي داخل كلّ حفرة برميل أدّى إلى هذا الدّمار الكبير".
وكانت عائلة الكفارنة قد اكتشفت قصف منازلهم خلال التّهدئة الأولى التي استمرّت ثلاثة أيام، وبدأت في الخامس من أغسطس الحالي، وقالت زوجة اسكندر عايدة (39عاماً): "جئنا في وقف إطلاق النّار الأوّل لمدّة 12 ساعة، وعندها كان البيت قائماً فشعرنا ببعض العزاء، ولكن حين جئنا في التّهدئة الأولى وجدنا كلّ شيء مدمّراً. "لم أكن أستطع وقتها دخول الشارع من دون وضع شيء على أنفي بسبب رائحة الجثث، والآن نزحنا نحن وأطفالنا إلى المدارس، ولا نرتدي سوى ما علينا، وأصابتنا الأمراض والأوبئة هناك".
بحسب اسكندر وابنه عمّه، لقد كانت تحت ركام منازلهم جثث لأحد عشر شخصاً كانوا يرتدون زيّ المقاومين، وتمّ انتشالهم بإشراف الجهات المختصّة.
وكانت عائلة الكفارنة قد رحلت عن منازلها في 16-7-2014 في الأسبوع الثاني للحرب بعد اشتداد القصف الإسرائيليّ، وتركتها فارغة بعد أن أغلقتها، لتنزح إلى مدرسة للوكالة قصفتها دبابات الاحتلال الإسرائيليّ في 24-7-2014، ممّا جعلها تغادر بيت حانون تماماً.
وعلى عكس النّساء اللواتي يجلسن عند مداخل المنازل المهدّمة، يتمدّد الرّجال أمام الدمار تحت ظلّ خيمة صنعوها من الأغطية، كأنّهم في انتظار عودة منازلهم.
الشعف
ومن منطقة بيت حانون على طول الخطّ الشرقيّ، توجّهت السيّارة نزولاً إلى منطقة الشعف المحاذية للحدود الشرقيّة من القطاع مع إسرائيل، لتتزايد آثار الدمار الواضحة على الطريق حيث تنتشر المباني والمصانع المحترقة كمصنعي العصير والوادية، إلى حين الاقتراب من مستشفى "الوفاء" الذي أصبح عبارة عن ثلاثة أكوام ضخمة، ولم يبق منه سوى لافتة كتب عليها اسم مستشفى. وفي وقت يحاول فيه بعض العمّال إنقاذ بعض الأجهزة المتخصّصة لعلاج ذوي الحاجات الخاصّة، يحضّر اثنان من حرّاس المستشفى الشاي على نار حطب أشجار حديقة المستشفى المدمّر.
وفي هذا الإطار، قال الحارس أبو سلامة مشتهى لـ"المونيتور": "أصرّ طاقم العمل في المستشفى على البقاء، حتّى الأسبوع الثاني من الحرب، رغم تهديدات الجيش بالقصف، ولم نغادره إلاّ حين بدأت المدافع بقصف المبنى الأحدث، وهو المبنى الثالث من مباني المستشفى. وكان هناك متضامنون أجانب معنا، لكنّهم لم يتحملوا شدّة القصف، فغادروا. لقد حملنا المسنّين والمرضى بالأغطية تحت القصف، ويبلغ عددهم حوالى المائة، ونقلناهم بسيارتي إسعاف وسيارة خاصّة تابعة للمستشفى، وذهبنا وعدنا حوالى عشرّ مرّات حتى أمنّاهم جميعا في مجمّع الصحابة الطبيّ".
وتبدو المباني السكنيّة المحيطة بالمستشفى على وشك الانهيار بسبب قذائف الدبّابات المتلاحقة التي أصابتها، وقال أحد سكّانها عمر الخيسي (17عاماً) يرافقه ابنا عمّه، خلال عودتهم إلى منازلهم المحروقة: "سنقضي الليلة هنا إذا لم يقصفوا، وإذا انتهت الحرب سنرجع لمنازلنا وننصب الخيم بجانبها. جئت اليوم لأنتشل بعض الملابس لعائلتي النازحة في المدارس، ولأبحث عن ألبومات صورنا، ولكني وجدت كل شيء محروقاً بفعل القذائف".
وليس بعيداً، عند الحدود وخلف المستشفى، في حي الشعف، تبدو المنازل عبارة عن هياكل رماديّة كأنّ جيشاً من الفئران قام بقرضها في شكل عشوائيّ، بيد أنّ قذائف الدبّابات هي من فعلت ذلك.
لقد عاد أصحاب هذه المنازل لتفقّدها في شكل جماعيّ، فهناك من ينصب خيمة أمام الدمار، وآخر يجلس في الغرف على ما وجده من كنبات وكراسٍ، لكنّها مكشوفة للعامّة لأنّ الغرف من دون جدران، وتبرز رسوم القلوب و"ميكي ماوس" على بعض الجدران الداخليّة للمنازل. واستندت الحاجّة فاطمة عفانة (56عاماً) على أحد هذه الجدران وقالت لـ"المونيتور": "اليوم، لم نكتشف الدمار فقط، بل رأينا مخلّفات جنود الاحتلال. لقد كانوا يقضون حاجتهم في كيس الدّقيق الذي كنت أخبز منه للعائلة، وتركوا علب الطعام الفارغة المكتوب عليها بالعبري".
وفيما يبدو الجميع متعاوناً مع الصحافة والزائرين، إلاّ أن الحيرة تبدو على وجوههم، والسؤال يتجدّد: "متى ستبنى منازلنا من جديد؟"، وهذا الموضوع الأهمّ الآن، أو كما قالت الحاجّة دلال الكفارنة بدموعها: "المنزل معادل للروح".