تعهّد القائد العسكري السابق عبد الفتاح السيسي، في أول مقابلة متلفزة معه بعد ترشّحه للرئاسة، أنه لن يكون للإخوان المسلمين وجود في عهده، وأعطى لمحة عن تصوّره لولايته الرئاسية. وقد تفاوتت ردود الفعل: هلل أنصاره معتبرين أنه رجل دولة حازم ذو قبضة قوية تحتاج إليها البلاد، في نظرهم، لفرض القانون والنظام والأمن من جديد؛ أما خصومه فرأوا في كلامه دليلاً مقلقاً على الأسلوب الصارم الذي ينوي استخدامه حال نجاحه في حكم البلاد، وهو الرجل الذي أمضى حياته المهنية في إعطاء الأوامر متوقعاً أن يمتثل لها الآخرون.
دامت المقابلة خمس ساعات، وقُسِمت إلى جزئين عُرِضا في 5 و6 أيار/مايو الجاري. سُجِّلت المقابلة قبل بضعة أيام من بثّها، ما يعني أن المضمون ربما خضع لعمليات المونتاج، مع ملاحظة أن ابراهيم عيسى ولميس الحديدي اللذان أجريا المقابلة هما من أشدّ المؤيدين للسيسي وكذلك الأمر بالنسبة إلى المحطتين التلفزيونيتين اللتين يمثّلانهما.
يرى السيسي إن المخاطر الكبرى التي تواجهها البلاد، وملايين المصريين الذي يمكن أن يعانوا إذا انهارت الدولة، هي السبب الأساسي الذي دفعه إلى تغيير موقفه والترشّح للرئاسة، بعد أن كان قد أعلن من قبل بأنه لن يترشّح. في الجزء الأول من المقابلة، شدّد السيسي على الطابع الملح للتحدّيات التي تواجهها مصر راهناً ومستقبلاً، لكنه أظهر تصميماً على تخطّي هذه الصعوبات، وثقةً لا تتزعزع في أن المصريين يقدرون على تجاوزها.
أوضح السيسي دون مجاملة أن عدداً كبيراً من المصريين أراده أن يترشّح، وأنه حال نجاحه سيقود البلاد وفقاً لرؤيته الخاصة، رغم أن الدستور الجديد يفرض قيوداً على الصلاحيات الرئاسية في ما يتعلق بالسياسة الداخلية التي يتولاّها بشكل أساسي رئيس الوزراء الذي يتم تعيينه بموافقة مجلس النواب. وكرر السيسي مرات عديدة عبارة "لا أدين بفواتير لأحد"، وأوحى في حديثه أنه إذا أراد المصريون إنقاذ البلاد، فيجب أن تسير الأمور في وجهة محددة، تعطي الأولوية طبقاً لرؤيته للعمل والإنتاج وتخطي الأزمة الاقتصادية، مع تأجيل المظاهرات والاحتجاجات والمطالب الفئوية.
قال السيسي إنه إزاء المشاكل الهائلة التي تكاد البلاد أن تغرق فيها، ينبغي على المصريين بذل جهود حثيثة لإنقاذ وطنهم، مضيفاً "لن أنام، وأنتم أيضاً لن تناموا!" وأنه ليس من المقبول أن تكون التركة التي يورثها المصريون لأولادهم المزيد من الديون".
وقد أوضح السيسي أنه ينوي تغيير جوانب كثيرة في إدارة الدولة، مع التركيز على أدوات القوة الناعمة، من أجل التصدّي لمشكلة التطرف الذي يغذّيه "الإخوان المسلمون" وغيرهم من الجماعات الإسلاموية. كانت الدولة المصرية في الماضي قد سمحت لهذه الجماعات بالعمل خلال عهد حسني مبارك، بل أن السادات في البداية شجعها ومكنها على أمل استخدامها سياسياً لتحجيم الناصريين والشيوعيين في مطلع السبعينيات، وكانت النتيجة المفجعة أن السادات اغتيل عام 1981 على أيدي المتشدّدين الإسلامويين خلال عرض عسكري للاحتفال بذكرى العبور المصري في 6 تشرين الأول/أكتوبر.
وعن أدوات التغيير التي سيستخدمها، قال السيسي إنه سيعتمد على إرادة المصريين ورغبتهم في إنقاذ وطنهم، فهم على حسب قوله الذين "استدعوه" لمواجهة خطر انهيار الدولة، على الرغم من عدم إبدائه استعداداً في البداية. ولدى سؤاله كيف سيتعامل مع تلهُّف الناس للحصول على نتائج سريعة، قال السيسي: "عندما يرى المصريون الأمل ويثقون بقادتهم، يمكنهم أن يكونوا أكثر شعوب الأرض صبراً". ولمّح السيسي أيضاً إلى أنه سيحصل على مزيد من الدعم المالي من السعودية والإمارات العربية المتحدة، وأثنى على الملك عبدالله الذي وصفه بكبير وحكيم العرب، كما أشاد بحكّام الإمارات العربية المتحدة.
وتعهّد السيسي بأنه لن يسمح للإخوان المسلمين بالتواجد خلال عهده، مشيراً إلى تعصّبهم الأيديولوجي وعقيدتهم الدينية المتشدّدة. ولفت إلى أن التنظيمات الإرهابية، على غرار "أنصار بيت المقدس"، هي مجرد واجهة تتخفى وراءها الإخوان، وأضاف أن الشعب المصري - وليس السيسي – هو الذي قرّر إنهاء الإخوان المسلمين، وأن مشاهد العنف في الأشهر الماضية حفرت علامات عميقة في وجدان المصريين، ما يحول دون قبول المجتمع للإخوان في المستقبل المنظور.
وفي حين أكّد للمشاهدين أنه لن يفعل شيئاً مخالفاً للإسلام، كونه مسلماً ملتزماً، كان له انتقادات حادة تجاه الإسلام السياسي الذي رأى فيه تهديداً للإسلام نفسه. فقد اعتبر السيسي أن المقاربات والتفسيرات المتشدّدة جرّدت الإسلام من إنسانيته، وأساءت إلى طبيعته ورسالته. ولدى سؤاله عن "حزب النور" – وهو حزب سلفي أعلن دعمه للسيسي قبل أيام من اللقاء التليفزيوني- كان رد السيسي أن الدستور لا يُجيز وجود الأحزاب الدينية.
ورأى السيسي أيضاً أن قانون التظاهر ضروري لضبط الفوضى الذي يمكن أن تقضي، في رأيه، على مستقبل البلاد، ولم يتعاطف مع الانتقادات اللاذعة من ناشطين يعتبرون أن ذلك القانون يفرض قيوداً مشدّدة، حتى إن البعض يصفونه بأنه قانون "منع التظاهر".
أما في ما يتعلق بالخطط التي وضعها السيسي من أجل تنمية البلاد في حال وصوله إلى سدّة الرئاسة، فقد ذكر أنها تشمل "ممر التنمية" الذي اقترحه فاروق الباز، ويهدف إلى توسيع المساحة المحدودة التي يقطنها المصريون. وتوقّف أيضاً عند مشروع محور قناة السويس، واعادة ترسيم محافظات الصعيد لتوسيع الظهير الصحراوي لها، ضمن مشاريع أخرى، تهدف في مجملها إلى تأمين فرص وظيفية وتحقيق زيادة كبيرة في إجمالي الناتج المحلي المصري مع جذب – وتأمين – الاستثمارات المصرية والأجنبية، حيث يشكل نقص موارد النقد الأجنبي مشكلة خطيرة للاقتصاد المصري.
يبدو أن السيسي يجمع في توجّهاته الاقتصادية، بين سياسات "العقد الجديد" التي وضعها فرانكلين د. روزفلت إبان الركود الكبير - عندما تدخّلت الدولة الأميركية بقوة لتحفيز الطلب وضخ سيولة لتمويل مشروعات بنية أساسية لتنشيط الاقتصاد وتصحيح إخفاقات السوق بصورة مؤقتة - وبين سياسات السوق الحرة التي تقوم على تشجيع القطاع الخاصة واعتماد قوانين تحمي الاستثمارات المحلية والأجنبية.
قبل بضعة أيام فقط، أصدر الرئيس المؤقت عدلي منصور القانون 32/2014 من أجل وضع حد لسلسلة من الدعاوى العبثية التي تهدف إلى إبطال معاملات اقتصادية عديدة للدولة، بما في ذلك بيع أصول وأراضٍ وخصخصة شركات مملوكة للدولة. وقد أثار القانون غضباً عارماً في صفوف الناشطين اليساريين الذين استغلوا الثغرات في غابة التشريعات المصرية المتضاربة لمقاضاة الحكومة وإلغاء صفقات خصخصة بعد سنوات على تنفيذها، ما تسبّب بفوضى مالية شديدة داخل الشركات، ويعرّض مصر لغرامات جزائية قاسية وأدّى إلى خسارة ثقة المستثمرين بالدولة.
كما لمّح السيسي أكثر من مرة إلى أن إعادة إرساء سيادة القانون هي من الأولويات القصوى. وفي مرحلة معينة من المقابلة، حذر محاوره عيسى: "لن أسمح لك بالاستمرار في استخدام مصطلح "العسكر" ". ثم خفف من حدة هذا التهديد قائلاً إنه كان يتقبّل الانتقادات الحادة والتعابير المسيئة بل والسباب الذي كان يوجَّه إليه خلال تولّيه منصب وزير الدفاع، لكنه أردف أن هذا سيتغيّر تدريجياً. باختصار، قدّم نفسه كرجل عسكري يؤمن بأن كل ما تحتاجه الدولة لحل المشاكل المعقّدة، يكمن فقط في المثابرة والانضباط والعمل الدؤوب.
واعتبر السيسي أن الأحداث التي شهدتها الأعوام الثلاثة الماضية أثبتت أن المصريين يستطيعون عزل أي رئيس أو نظام لا يتجاوب مع مطالبهم. وأضاف أنه من مسؤولية الرئيس الحرص على نمو الأحزاب السياسية القوية وكذلك استعادة القيم والسلوكيات وتصحيح في فهم جوهر الدين، وهو ما أقلق عيسى الذي تساءل عما إذا كانت وظيفة الرئيس هي "تربية المصريين". طمأن السيسي المصريين إلى احترامه للتنوع، قائلاً بأنه نشأ في أحد أقدم الأحياء وأكثرها تنوّعاً في مصر، حيث كانت المساجد والكنائس والمعابد اليهودية ركائز أساسية يحترمها المجتمع المحلي. وأثنى السيسي أيضاً على دور النساء المصريات في إنهاء حكم الإخوان، واصفاً إياه بأنه تاريخي.
بوضوح، كان السيسي يتحدث أساساً إلى جمهوره ومشجعيه، ولم يسعَ إلى طمأنة منتقديه. ففي حين هلّل مؤيدوه لكلماته الحاسمة ورباطة جأشه، اعتبر منتقدوه أن كلامه وأسلوبه يكشفان عن شخصية رجل سلطوي لم يعتد أن يعارضه الآخرون. مما لا شك فيه أن مقابلة السيسي ستثير المخاوف في أوساط المحللين الغربيين الذين يشبّهه كثر بينهم بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
بحسب استطلاع أجراه المركز المصري لبحوث الرأي العام (بصيرة)، حسم 78 في المئة من المصريين قرارهم بشأن الشخص الذي سيصوّتون له في الانتخابات. بيد أن مقابلة السيسي جعلت عدداً كبيراً من الناشطين الذين كانوا قد اتخذوا قرارهم في السابق بمقاطعة الانتخابات، يبدّلون موقفهم ويعلنون تأييدهم لحمدين صباحي. وهكذا ربما قدّم السيسي لخصمه ملايين الأصوات هدية. لكن من يعلم؟ ربما تعمّد ذلك. في كل الأحوال، إذا أصبح السيسي بالفعل رئيساً لمصر، ومن أجل أن ينجح في مواجهة التحديات الهائلة التي تأتي مع هذا المنصب الصعب، عليه ألا يكتفي بمخاطبة محبيه الذين يثقون به ويفكرون بنفس طريقته، في مونولوج من طرف واحد، بل يجب أيضاً أن يخاطب الآخرين ويحسب ردود أفعالهم، لا سيما القطاعات التي لم تحسم أمرها والمتشككين، وهي فئات يمكن أن تنقلب بسهولة عليه، وتقلل من احتمالات نجاحه في مهمة هي أصلاً في غاية الصعوبة، مهمة تحتاج إلى تضافر كل الجهود دون استعداء لأي كتلة، مهمة إنقاذ وطن وصل فعلاً إلى الحافة وكاد أن يسقط، لولا ستر من الله وعزيمة جبارة من شعب، يعلن بكل وضوح إصراره على البقاء.