التأم مجلس النواب في 23 نيسان/أبريل الجاري من أجل انتخاب رئيس للجمهوريّة. جرت عمليّة الإقتراع وفق "الأصول"، لكن أحداً لم يفز كما كان متوقعاً وأتت النتائج غير مفاجئة.
مرشّح 14 آذار المعلن، نال 48 صوتاً من أصل 124 صوتاً أدلى بها النواب الذين شاركوا في جلسة الانتخاب [مع تسجيل تغيّب أربعة نواب من أصل 128 نائباً عن الجلسة]. أما مرشّح كتلة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي افترق عن 14 آذار وتموضع في موقع وسطي، فنال 16 صوتاً. والملاحظة الأولى هنا أنه كان بإمكان هذا الفريق [14 آذار] لو لم يخرج منه جنبلاط ولو حضر جلسة الانتخاب زعيم كتلة المستقبل سعد الحريري المقصى ومعه رفيقه والنائب عن كتلته عقاب صقر الموجود أيضاً في خارج لبنان، أن يحصد 66 صوتاً أي ما يزيد عن الأكثريّة المطلقة الضروريّة لانتخاب رئيس في الدورة الثانية.
أما نواب 8 آذار، فاقترعوا بأوراق بيضاء. وما لبثت أن انتهت الدورة الأولى للتصويت، حتى خرج هؤلاء من القاعة في محاولة لتعطيل النصاب والحؤول دون حصول دورة ثانية تأتي برئيس وتحدث مفاجأة لم تكن في الحسبان.
أسدل الستار وقد انتهت المسرحيّة.. وعاد شبح الفراغ سيّد الموقف.
وفي لبنان، جرت العادة –واتفاق الطائف لم يغيّر شيئاً فيها لا بل على العكس كرّسها- أن يتمّ التوافق على الرئيس من قبل التكتلات السياسيّة الأساسيّة، وذلك قبل انعقاد جلسة التصويت. وهكذا تكون عمليّة الاقتراع تحت قبّة البرلمان مجرّد إخراج لتفاهم التكتلات الناطقة باسم الطوائف. هذا في الشكل. أما في الواقع، فالتوافق إن حصل هو توافق إقليمي أولاً، أو قل تسوية بين القوى الإقليميّة الفاعلة على الساحة اللبنانيّة. وهذا لا ينطبق فقط على صناعة الرؤساء إنما أيضاً على تشكيل الحكومات. هكذا مثلاً، أتت حكومة تمام سلام منذ ما يقارب الشهر نتيجة تسوية بالحدّ الأدنى بين إيران والمملكة العربيّة السعوديّة عبر وسطاء عدّة، على رأسهم فرنسا والولايات المتحدة الأميركيّة. والسؤال اليوم، هل ما زال هذا التفاهم قائماً وهل يسري على رئاسة الجمهوريّة؟ أم أن "انتخاب" رئيس يستدعي تفاهماً من عيار مختلف بمعنى أنه يستدعي بازاراً جديداً مع ما يرافقه من جولات تفاوضيّة، منها ما هو معلن ومنها ما هو سريّ، مع ما يستتبع هذه العمليّة من ضمانات وأثمان يطلبها هذا أو يرفضها ذاك؟
أما اليوم، فليس في الأفق ما يشير إلى حصول توافق على اسم الرئيس العتيد. طبعاً صانعو الرئيس وهم القوى الإقليميّة المعنيّة، يقولون إنهم يدعمون المؤسسات الدستوريّة وعلى رأسها رئاسة الجمهوريّة وإنهم على مسافة واحدة من جميع المرشّحين. وواقع الأمور هو أن التسوية لم تنضج بعد أو هي تمّت لكن إخراجها إلى العلن قد يتطلب بعض الوقت. وهذا ما تشي به الأرقام ومواقف اللاعبين في الداخل. فانتخاب رئيس يتطلب نصاب 86 نائباً، وهذا عملياً يعني قبول كل من فريقَي 8 و 14 آذار بعدم مقاطعة الجلسة. وقد يكون كل منهما مستعداً لعدم المقاطعة في حالتَين، إما في حال حصول تسوية فيتّجه الجميع إلى صندوق الاقتراع لترتيب الإخراج، أو في حال التأكد من أن فريق الخصم لن يمرّ في الأغلبيّة المطلقة ألا وهي 65 صوتاً، فيكون حضورهم الجلسة من باب رفع العتب واحترام الأصول الدستوريّة شكلياً. وإذا ما توفّرت هذه الضمانة، تكون الأرجحيّة لتعطيل النصاب.
تحالف 14 آذار والذي يضمّ في صفوفه أكثر من مرشّح طبيعي لهذا المنصب، كان في الأمس [23 نيسان/أبريل 2014] أمام تحدّيَين اثنَين. أولاً الحفاظ على تماسكه ولا شك في أنه نجح في هذا التحدي أقلّه في هذا اليوم، وثانياً إيصال مرشّح من صفوفه وإذا تعذّر ذلك فالتوصّل مع الطرف الآخر إلى مرشّح تسوية يكون مقبولاً لديه. وترشّح سمير جعجع قبل أيام وبشكل علني وصريح ووفق برنامج واضح المعالم مستعيداً الثوابت السياديّة لهذا الفربق وبانياً على تطلعات جماهيره الإصلاحيّة، أحرج الخصوم والحلفاء في آن. صحيح أن هذا الترشّح وفي غياب أي آلية محدّدة لدى هذا التحالف العريض وحديث السن (2005) لم يأتِ عبر قرار مركزي إنما بمبادرة من جعجع نفسه، لكن صحيح أيضاً أنه من الصعب على بقيّة الحلفاء وعلى رأسهم تيار المستقبل تجاهل هذا الترشّح بخاصة وأنه الأكثر تمثيلاً لقواعد 14 آذار من بين مرشيحها الآخرين. لذلك حسمت الأمور لدى فريق 14 آذار وتمّ تبنّي ترشّح جعجع، ليس أقله لضرورة تماسك التحالف وتعزيز الموقع التفاوضي.
من جهته، لا يرتاح فريق 8 آذار المتمحور حول حزب الله لطروحات جعجع المطالبة بانضواء سلاح هذا الأخير تحت مظلة الشرعيّة اللبنانيّة. مرشّحه المعلن هو العماد ميشال عون. لكن هذا الأخير يصرّ على أن يكون مرشحاً توافقياً ليس فقط لإدراكه أن الرئاسة تصنع عبر توافق خارجي، إنما أيضاً لأن تحالفه غير ممسك بأكثريّة 65 صوتاً. لهذا السبب تحديداً، قام بالانفتاح مؤخراً على تيار المستقبل بعد مواجهة عنيفة معه استمرت لأعوام.
في الواقع، كلّ من فريقَي 8 و 14 آذار بحاجة إلى أصوات الزعيم الدرزي وليد جنبلاط لتأمين 65 صوتاً وضمان فوز مرشّحه. ففي ظل التوازن الحاصل، أصوات جنبلاط تحسم هويّة الرئيس. واقع الأرقام يجعل زعيم المختارة صانع الرؤساء. هل هذا يعني أنه الآمر الناهي؟ طبعاً لا. ففي الماضي القريب، في أيار/مايو 2011، اضطر مكرهاً إلى الرضوخ لضغط حزب الله وتسهيل تكليف نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة وإقصاء سعد الحريري زعيم 14 آذار عملياً من الحكم، لا بل من لبنان. لكن من المستبعد أن يتكرّر هذا السيناريو اليوم. ليس فقط لأن الشروط الإقليميّة لا تسمح بانقلاب من هذا القبيل، إنما أيضاً لأن حزب الله نفسه قد يؤثر أن يبقى حليفه -والمقصود به عون- إلى جانبه. فوصوله إلى سدّة الرئاسة قد يضطره إلى تعديل بعض من مواقف الدعم المطلق للمقاومة والوقوف على مسافة واحدة من جميع الأفرقاء. رئيس وسطي قد يبقي الحليف حيث هو، ويحافظ على التوازن الداخلي الضامن "للمقاومة"، ويفتح الباب أمام تسوية مع الفريق الآخر، مع السعوديّة تحديداً. حينها تعطى كلمة السرّ للزعيم الدرزي ولغيره... فتعبّد الطريق أمام الرئيس العتيد.