على بعد مئات الأمتار من مرقد الإمام علي بن أبي طالب في مدينة النجف جنوب العراق، يقع منزل المرجع الديني الأعلى للشيعة آية الله علي السيستاني في زقاق شعبي صغير في منطقة الحويش التي تضمّ بيوتاً قديمة وفقيرة ومتاجر متواضعة. لا يختلف منزل السيستاني عن هذه المنازل في بنائه وتواضعه، أما الإجراءات الأمنيّة حوله فعاديّة لا تجعلك تشعر بوجود شخصيّة دينيّة بهذه الأهميّة، لولا وجود صف من الرجال الذين ينتظرون الدخول إلى المنزل لإلقاء التحيّة والسلام على مرجعهم الديني.
وعلى الرغم من كون السيستاني (84 عاماً) أكثر مراجع الشيعة الإثني عشريّة تقليداً في العالم وخصوصاً في العراق والهند وباكستان ودول الخليج، إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود مراجع آخرين في النجف ومدن عراقيّة أخرى، كما في إيران وغيرها من الدول التي يسكنها الشيعة. ومن أبرز هؤلاء المراجع آية الله السيد محمد سعيد الحكيم وآية الله الشيخ محمد إسحاق الفياض وآية الله الشيخ بشير النجفي.
والحوزة العلميّة في النجف ومعناها مجموع المدارس الدينيّة التي تخرّج رجال الدين الشيعة، أسّسها أبرز علماء الشيعة الشيخ محمد الطوسي نحو العام 1028، وإن كان البعض يعتقد أن الحركة العلميّة انطلقت في النجف قبل مجيء الطوسي بعقود كثيرة. وكان الطوسي قد هرب من الفتنة المذهبيّة في بغداد التي أدّت إلى إحراق مكتبته وكرسيّه للتدريس، واستقرّ في النجف كمرجع للإثني عشريّة. فأطلق عليه لقب "شيخ الطائفة"، وقد ألّف كتابَين من كتب الشيعة الأربعة الأساسيّة التي تشتمل على أحاديث النبي والأئمة.
في النجف، قام "المونيتور" في أواخر شباط/فبراير الماضي بزيارة اثنَين من المراجع الأربعة هما الحكيم والفياض. وقد تعذّر علينا زيارة السيستاني والنجفي لضيق الوقت. لاحظنا بساطة عيش المرجعَين، من حيث تواضع منزليهما وخلوهما من الأثاث الحديث وارتكازهما على بعض الفرش والمساند. وقد دار نقاش ديني طويل مع المرجع الحكيم حول بعض البحوث التي تضمّنه أحد كتبه، وكان كريماً في منحنا بعض من وقته للردّ على أسئلتنا.
كذلك سألنا المرجع الفياض عن واقع المرجعيّة الدينيّة، فقال إن المرجعيّة الشيعيّة تتميّز باستقلالها السياسي والمالي. وهي بخلاف المرجعيات الدينيّة لدى الإخوة السنّة، ليست مرتبطة بالحكومة أو بوزارات الأوقاف ولا تتلقى أي فلس من الحكومات. وأوضح الفياض أن تمويل المرجعيّة والحوزة يتمّ عن طريق أموال الخمس والزكاة والحقوق الشرعيّة الأخرى التي يدفعها المقلّدون الشيعة للمرجع الذي يتبعونه.
ومعلوم أن على كل شيعي أن يدفع خمس أرباحه السنويّة (20%) للمرجع أو وكيله. وللمرجع الحقّ في التصرّف بهذه الأموال في الإنفاق على الفقراء والأيتام وعلماء الدين وأساتذة المدارس الدينيّة وطلابها، وكذلك على بناء المساجد والمعاهد الدينيّة والمكتبات والمستشفيات والمراكز الصحيّة وغيرها من الخدمات الاجتماعيّة والدينيّة.
ويقول الشيخ جهاد الأسدي أحد رجال الدين الشيعة في النجف في مقابلة حصريّة مع "المونيتور"، إن ثمّة مصادر متنوّعة لتمويل المدارس، أهمّها الأوقاف التابعة لتلك المدارس من خلال الريع الذي تقدّمه وكذلك من خلال التبرّعات الخيريّة التي يقدّمها ميسورو الحال من أتباع مذهب أهل البيت ومن خلال الحقوق الشرعيّة التي يقدّمونها بنسبة 20% من أرباحهم السنويّة ضمن آليات وشروط معتبرة في الفقه الإسلامي.
وأوضح الأسدي أن تمويل الطالب من قبل الحوزة يتمّ بحسب ما يحتاج إليه. كذلك فإن مقدار المال المقدّم بشكل دوري لطلبة الحوزة مشروط بإجراء امتحان يثبت الطالب من خلاله كفاءته العلميّة، وهو يقارب راتب أصغر موظف في الدولة العراقيّة.
وفضلاً عن الرواتب الشهريّة للأساتذة والطلاب في المدارس الدينيّة، تقدم المرجعيّة والحوزة مساعدات لهم في حالات الزواج والمرض والحالات الطارئة من الأموال الشرعيّة.
وللشيعة طريقتهم الخاصة في انتخاب المرجع الديني. فالمرجعيّة لا تورّث ولا يتمّ ترشيح المرجع لنفسه والفوز عبر صناديق الاقتراع. بل إن انتخاب المرجع يتمّ عبر أسلوب مفتوح للجميع، إذ يرشّح العلماء المجتهدون عالماً مرجعاً ليتصدّى للمرجعيّة استناداً إلى أعلميّته وانتشارها وعدد مقلّديه. فمن بين المراجع الأربعة البارزين في العراق المذكورين أعلاه، تمّ ترشيح السيستاني ليكون المرجع الأعلى بسبب أعداد مقلّديه التي تفوق بنسب متفاوتة المراجع الآخرين.
ولا يعير الشيعة أهميّة لجنسيّة المرجع، سواء كان عراقياً أم إيرانياً أم تركياً أم أفغانياً أم هندياً، بل يهتمّون بعلمه وفقهه. فالسيستاني إيراني الأصل من بلدة سيستان على الحدود مع أفغانستان، لكنه يعيش في العراق منذ أكثر من نصف قرن، ويقلّده ربما أكثر من نصف الشيعة في العالم البالغ عددهم ما بين 200 و250 مليون نسمة. أما المراجع الثلاثة الآخرون، فالسيّد محمد سعيد الحكيم عربي وإسحاق الفياض من أفغانستان ومقيم في العراق منذ أكثر من 50 سنة. أما الشيخ بشير النجفي فهو باكستاني، مقيم في العراق منذ أكثر من 53 سنة.
وثمّة مراجع آخرون أقل شهرة في العراق وإيران، أبرزهم: المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وكاظم الحائري، ومحمود هاشمي الشهروردي، والوحيد الخراساني، وناصر مكارم الشيرازي، وصادق الحسيني الروحاني، والتقي القمي، ولطف الله الصافي الكلبايكاني، وعبد الكريم الموسوي الأردبيلي، ومحمد إبراهيم جناتي، ويوسف الصانعي.
وقد لعبت المرجعيّة دوراً دينياً واجتماعياً وسياسياً متميّزاً منذ الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر، إذ أمّنت العلاقة المباشرة بين المرجع ومقلّديه استقلاليةً سياسيّة وماليّة للمرجعيّة عن الأنظمة الحاكمة. ومارست المرجعيّة أدواراً مهمّة في تاريخ الأمة الإسلاميّة عبر فتاواها التي كان لها تأثيرها الكبير في مجريات الأحداث، مثل فتوى آية الله حسن الشيرازي التي حرّم فيها التنباك في إيران في العام 1891 احتجاجاً على اتفاقيّة احتكار التبغ الموقّعة بين الشاه ناصر الدين وبريطانيا، ما اضطرّ الشاه إلى إلغاء هذه الاتفاقيّة.
وقد تزعّم ثورة الدستور في العام 1905 اثنان من كبار الفقهاء في إيران هما محمد الطبطبائي وعبد الله البهبهاني، وقد دعمها كبار مراجع التقليد بخاصة كاظم الخراساني وعبد الله المازندراني ومحمد حسين النائيني. وكذلك نجد فتوى الملاّ الخراساني بالجهاد ضدّ الغزو الروسي لإيران في العام 1909، وصولاً إلى فتوى الجهاد ضدّ الاستعمار البريطاني التي صدرت عن مراجع العراق في العامَين 1919 - 1920، وصولاً إلى الثورة الإسلاميّة في إيران في العام 1979 بقيادة الإمام الخميني.
ولا شكّ في أن المكانة التي تحتلها المرجعيّة الدينيّة لدى أتباعها الشيعة جعل لها نفوذاً سياسياً تحسب له الحكومات حساباً وتسعى إلى إرضائها وتخشى غضبها. وقد رأينا الدور الذي لعبه السيستاني في رفض الحكم العسكري الأميركي في العراق ومطالبة الأميركيّين بتسليم السلطة إلى مجلس الحكم العراقي والمسارعة في إجراء انتخابات عامة، وكذلك دور الرقابة على الحكومة ورفضه مقابلة السياسيّين العراقيّين حتى لا يكون ذلك نوعاً من الدعم لهم ومنحهم الشرعيّة.
وعلى الرغم من النفوذ الديني والاجتماعي والسياسي للمرجعيّة في النجف، إلا أن السيستاني والمراجع الآخرين لا يعتقدون بنظريّة ولاية الفقيه، بل يدعون إلى دولة مدنيّة لا دولة دينيّة يحكمها رجال دين على أن تراعي القيم والمبادئ الإسلاميّة.