تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

فرانكشتاين في بغداد: الأدب العراقي يفسّر العنف السياسي

بالنسبة إلى معظم العراقيّين لا سيّما أولئك الذين يعيشون في المناطق غير الآمنة كالعاصمة بغداد، ما زال من الصعب إدراك كيفيّة تحوّل بعض الشباب إلى انتحاريّين يقتلون أنفسهم وسط المدنيّين الأبرياء ويتوقّعون أن يثابوا من الله على هذا العمل، ومن الصعب أيضاً معرفة من هي الجهات التي تملك مصلحة سياسيّة من جرّاء استمرار هذا النوع من القتل. وبالنسبة إلى آخرين، من الصعب تفسير عجز القوات الأمنيّة العراقيّة بعد كل هذه السنوات عن وضع خطط أمنيّة ناجحة للتعامل مع السيارات المفخّخة وغيرها من أساليب العنف التقليديّة التي تعتمدها الجماعات المتطرّفة.
People browse through books during the launch of a reading initiative in Abu Nawas Park in Baghdad September 28, 2013. The "I am Iraqi... I read" initiative was launched on Saturday in Baghdad to encourage Iraqis to read in a country that has suffered decades of war and internal struggle. REUTERS/Ahmed Saad (IRAQ - Tags: EDUCATION SOCIETY) - RTR3FE1M

ما زال العراق يسجّل أعلى معدّلات العنف السياسي في العالم، إذ يُقدَّر عدد الذين قتلوا منذ العام 2003 بأكثر من نصف مليون وفق بيانات فريق أكاديمي بحثي وثمّة ما يقرب من 2433 ضحيّة مدنيّة منذ بداية العام الحالي، وهو رقم متحفّظ ويعتمد أساساً على الحوادث الموثّقة إعلامياً فقط. وفي حين كُتب الكثير عن الدوافع السياسيّة وراء العنف المتواصل وأسباب نموّ الجماعات المسلحة والإرهاب في العراق، فإن غالبيّة العراقيّين ما زالوا يجدون صعوبة في تفسير كل هذا العنف بالطرق التقليديّة.

بالنسبة إلى معظم العراقيّين لا سيّما أولئك الذين يعيشون في المناطق غير الآمنة كالعاصمة بغداد، ما زال من الصعب إدراك كيفيّة تحوّل بعض الشباب إلى انتحاريّين يقتلون أنفسهم وسط المدنيّين الأبرياء ويتوقّعون أن يثابوا من الله على هذا العمل، ومن الصعب أيضاً معرفة من هي الجهات التي تملك مصلحة سياسيّة من جرّاء استمرار هذا النوع من القتل. وبالنسبة إلى آخرين، من الصعب تفسير عجز القوات الأمنيّة العراقيّة بعد كل هذه السنوات عن وضع خطط أمنيّة ناجحة للتعامل مع السيارات المفخّخة وغيرها من أساليب العنف التقليديّة التي تعتمدها الجماعات المتطرّفة.

غياب الأجوبة المنطقيّة عن تلك الأسئلة دفع عدداً كبيراً من العراقيّين إلى اليأس، وربما إلى قبول العنف باعتباره جزءاً من روتينهم اليومي. وبدلاً من التركيز على مواجهة العنف وأسبابه السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، يفضّل عدد كبير من العراقيّين التعايش معه والقبول بأنه صار جزءاً من حياتهم. وفي غياب حلول سياسيّة واضحة، أخذ الأدب والفن العراقيَّين يركزان أكثر على العنف وأثره على حياة العراقيّين، وأحياناً بأسلوب الفانتازيا. وهذا ما فعله الروائي أحمد سعداوي في روايته "فرانكشتاين في بغداد" التي وصلت إلى القائمة القصيرة للأعمال المرشّحة لجائزة "بوكر" الأدبيّة العربيّة لهذا العام.

تتمحور الرواية حول شخصيّة "الذي لا اسم له"، وهو النسخة العراقيّة للمخلوق الخيالي فرانكشتاين الذي صنعه بائع عاديات من بقايا جثث ضحايا التفجيرات،  ليتحوّل بعد ذلك إلى كائن حيّ يقوم بالانتقام من قتلة الضحايا الذين تشكّل جسده منهم.

كأي عمل أدبي أو فني، يمكن للفانتازيا في هذه الرواية أن تُفسَّر بطرق متعدّدة. لكن من الصعب على القارئ أن لا يرى أنها تعبّر عن شعور عام بالعجز تجاه العنف الذي يشهده العراق. ويقول سعداوي في حديث إلى "المونيتور" إن "الفانتازيا هي مجرّد بعد واحد من أبعاد الرواية التي تضمّ أيضاً أبعاداً اجتماعيّة وسياسيّة". يضيف أن "الفانتازيا لم تكن هروباً أو اغتراباً عن الواقع وإنما وسيلة للوصول إلى عمق أكبر في هذا الواقع. وهو واقع، مهما كان سطحه منتظماً ومنطقياً إلا أنه يحفل بالفانتازيا كممارسة يوميّة خطابيّة وسلوكيّة، إن نظرنا إلى الفانتازيا كعنوان عام للعجائبي الذي يهيمن على الوعي الاجتماعي الشعبي وإلى الميل إلى تصديق التفسيرات غير المنطقيّة أو التفكير بصور لاهوتيّة معيّنة وما ورائيّة للخلاص من اليأس والإحباط".  

ويرى سعداوي أن شخصيّة فرانكشتاين "الذي لا اسم له" هي شخصيّة رمزيّة تحيل إلى قضايا سياسيّة واجتماعيّة ونفسيّة وميتافيزيقيّة وأخلاقيّة. فبرأيه، "الخليط السياسي العراقي الذي طفا إلى السطح بعد العام 2003 أخفق في خلق أفق لعمل مشترك، أو أقلّه برنامج عمل لدولة تنهض من ركام الخراب. وصار شكل الدولة وهويّتها غامضَين كما هي شخصيّة ’الذي لا اسم له‘ في الرواية". ويختم سعداوي قائلاً إن "المواطن العراقي وجد نفسه مدعواً إلى حماية نفسه بنفسه، وأنه هو بنفسه من عليه أن يحدّد الصديق من العدو. وهذا ما خلق بيئة خصبة لنشوء المليشيات والجماعات المسلحة التي اكتسبت شرعيّتها من الحاجة الشعبيّة إلى الحماية. ومع استمرار ضعف الأجهزة الأمنيّة والقضائيّة والإجراءات التنفيذيّة المرتبطة بإحقاق العدالة وعدم كفاءتها، يستمرّ الهاجس الشعبي بغياب القدرة على تحقيق العدالة من خلال الدولة".

هذه المعالجة الأدبيّة للعنف في العراق تشكّل حلقة جديدة في إطار سعي المثقفين والكتاب العراقيّين إلى صنع معنى من المحنة المستمرّة في بلادهم، وإيصال هذه المحنة إلى العالم الخارجي. فبعد كل ما حصل، لا يمكن للأرقام وحدها أن تعطي صورة كاملة حول المشاكل والضغوط والمعاناة التي يواجهها الناس، وهم مضطرون إلى التعامل مع العنف بشكل يومي وإلى تطوير حواسهم لتوقّعه من أجل أن يتمكّنوا من البقاء على قيد الحياة. تتعمّق هذه المشكلة حينما تفشل مؤسسات الدولة في توفير الحماية للناس وفي توفير العدالة للضحايا وفي تقديم أجوبة واضحة حول مصادر العنف وأسبابه وكيفيّة مواجهته. وإذ يبدو أن الطبقة السياسيّة العراقيّة أخذت تتعامل مع التفجيرات والقتل المتواصل كحقيقة يوميّة وتتنصّل من مسؤوليّة مواجهتها أو إيجاد حلول لها، فإن مهمّة فهم العنف وتفسيره وتعريته تصبح وبشكل أكبر مهمّة الباحثين والفنانين والأدباء.  

Join hundreds of Middle East professionals with Al-Monitor PRO.

Business and policy professionals use PRO to monitor the regional economy and improve their reports, memos and presentations. Try it for free and cancel anytime.

Already a Member? Sign in

Free

The Middle East's Best Newsletters

Join over 50,000 readers who access our journalists dedicated newsletters, covering the top political, security, business and tech issues across the region each week.
Delivered straight to your inbox.

Free

What's included:
Our Expertise

Free newsletters available:

  • The Takeaway & Week in Review
  • Middle East Minute (AM)
  • Daily Briefing (PM)
  • Business & Tech Briefing
  • Security Briefing
  • Gulf Briefing
  • Israel Briefing
  • Palestine Briefing
  • Turkey Briefing
  • Iraq Briefing
Expert

Premium Membership

Join the Middle East's most notable experts for premium memos, trend reports, live video Q&A, and intimate in-person events, each detailing exclusive insights on business and geopolitical trends shaping the region.

$25.00 / month
billed annually

Become Member Start with 1-week free trial
What's included:
Our Expertise AI-driven

Memos - premium analytical writing: actionable insights on markets and geopolitics.

Live Video Q&A - Hear from our top journalists and regional experts.

Special Events - Intimate in-person events with business & political VIPs.

Trend Reports - Deep dive analysis on market updates.

All premium Industry Newsletters - Monitor the Middle East's most important industries. Prioritize your target industries for weekly review:

  • Capital Markets & Private Equity
  • Venture Capital & Startups
  • Green Energy
  • Supply Chain
  • Sustainable Development
  • Leading Edge Technology
  • Oil & Gas
  • Real Estate & Construction
  • Banking

We also offer team plans. Please send an email to pro.support@al-monitor.com and we'll onboard your team.

Already a Member? Sign in

Start your PRO membership today.

Join the Middle East's top business and policy professionals to access exclusive PRO insights today.

Join Al-Monitor PRO Start with 1-week free trial