للمرّة الأولى منذ اندلاع الأحداث السوريّة منتصف آذار/مارس 2011، باتت التطوّرات العسكريّة على الأرض محطّ ترقّب ومتابعة وباتت نتائجها الميدانيّة قادرة على تغيير وجهة الأزمة السوريّة. فبعد مرحلة التظاهرات السلميّة، جاءت بداية المعارضة العسكريّة السوريّة عبر سلسلة أعمال محدودة متفرّقة، فيها الكثير من الرمزيّة والقليل من الفاعليّة الميدانيّة. ولذلك لم يتوقّف يومها أي مراقب جدياً عند مفاعيلها، على الرغم من الاعتقاد الواضح بأن الأزمة السوريّة ستستمر بأشكال مختلفة. ثم دخلت عوامل خارجيّة عدّة على خطّ تسليح المعارضات السوريّة وتمويلها. فصار الصراع العسكري جدياً. غير أنه ظل محكوماً بتوازن قوى على الأرض، تظلله معادلات خارجيّة ضابطة للوضع السوري برمّته. لذلك، وعلى الرغم من اشتداد المعارك واتخاذها شكل حرب أهليّة فعليّة، ظلّ العامل العسكري ثانوياً في سياق تحديد مصير سوريا. للمرّة الأولى منذ سنتَين تقريباً، يبدو الوضع العسكري راهناً في سوريا، عاملاً قادراً على حسم الوضع وعلى تحديد وجهة الحلول. وهو ما جعل المعنيّين به من طرفَي الصراع، في سباق محموم بين ما يجري على الأرض عسكرياً وما يجري على طاولات المكاتب سياسياً.
وفي هذا السياق يبدو أن خارطة المعارك العسكريّة في سوريا، مفتوحة في الأيام القليلة المقبلة على ثلاث جبهات، جميعها على قدر كبير من قدرة التأثير في مصير الأزمة. لكن الأهمّ أنها ثلاثتها مرتبطة بأبعاد سياسيّة خارجيّة، تساعد أكثر على فهم ما يجري ميدانياً كما سياسياً. فذهاب الجيش السوري في اتجاه أي من هذه الجبهات الثلاث على الأرض، قد يحمل معنى خاصاً في السياسة وقد يوجّه رسالة محدّدة إلى طرف خارجي وفق المعادلة الثلاثيّة الآتية:
أولاً، جبهة حلب. هي بالفعل كبرى الجبهات السوريّة، وأضخم المعارك التي يمكن أن يتواجه فيها الطرفان المتصارعان. وهي من جهة أخرى جبهة باتت مرجّحة عسكرياً، خصوصاً بعد سقوط مدينة السفيرة مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الجاري. ذلك أن السفيرة تمثّل بالنسبة إلى حلب تماماً ما مثّلته مدينة القصير بالنسبة إلى حمص، إن لجهة الموقع الاستراتيجي المتحكّم بشبكة واسعة من طرق المواصلات والإمدادات أو لجهة كونها "عاصمة الجهاديّين" والمركز الأكبر لتجمّعات الأصوليّين والمتطرّفين السنّة عند المدخل الجنوبي الشرقي لمدينة حلب، تماماً كما كانت القصير عند المدخل الجنوبي لمدينة حمص ومنطقتها. ولذلك، انطلقت بعد سقوط السفيرة التوقّعات بأن الجيش السوري متّجه نحو خوض معركة السيطرة على حلب، تماماً كما فعل مع حمص بعد سقوط القصير في الخامس من حزيران/يونيو الماضي.
غير أن لمعركة حلب بعداً خارجياً أهمّ من التفاصيل العسكريّة والميدانيّة. فخوض هذه المعركة يعني دخول الجيش السوري في تماس مباشر مع الحدود التركيّة الأكثر سخونة وحساسيّة. وهو ما يعطي هذه المعركة في حال حصولها، أبعاداً أخرى ومعاني أكثر تعقيداً في السياسة. فذهاب الجيش السوري إلى معركة حلب وبالتالي إلى التماس المباشر مع الأتراك، قد تكون دلالته أن أنقرة قد انكفأت فعلياً عن تورّطها السابق في الأزمة السوريّة أو أنها على الأقل قد بدأت تتراجع عن دعمها المطلق للمعارضات السوريّة. وهو احتمال تبدو مؤشّراته كثيرة جداً، من صمت رئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان الطويل حيال الوضع السوري على عكس خطاباته الناريّة طيلة العامَين الماضيَين، وصولاً إلى الانفتاح التركي على بغداد حليفة دمشق المباشرة، انتهاءً بالتنسيق المفترض بين أنقرة والدوحة. وذلك فيما الرسائل القطريّة الإيجابيّة تتلاحق نحو السلطات السوريّة... باختصار، اندلاع معركة حلب يعني في مكان ما تقاطعاً سورياً تركياً قد يكون لوحده مؤشّراً إلى حسم كلّ الصراع السوري.
ثانياً، جبهة القلمون. وهي الجبهة الممتدّة إلى الشمال الغربي من دمشق، على طول نحو 30 كيلومتراً وعمق متوسّطه خمسة كيلومترات، في شكل مقابل ومواز للحدود مع لبنان. بدأت مؤشّرات الانخراط السوري في هذه الجبهة، بعد التقدّم الكبير الذي حقّقه الجيش السوري في منطقة الغوطة في ريف دمشق الشرقي والجنوبي والشمالي، ما جعل جيوب المعارضات السوريّة المسلحة في القلمون في حالة شبه حصار. وهو ما جعل البعض يتوقّع توجّه النظام نحو حسم المعركة في هذه المنطقة الحساسة، نظراً لقربها من العاصمة السوريّة دمشق. غير أن لهذه الجبهة بعداً خارجياً أيضاً. فهي على تماس كامل مع الحدود اللبنانيّة، وتحديداً مع منطقة عرسال ذات الكثافة السكانيّة السنيّة، المعارضة للنظام السوري والمنخرطة في المعركة ضدّه إلى جانب معارضيه. ولذلك فإن أي تصعيد على جبهة القلمون، قد يعني تداخلاً في المعركة بين الأراضي السوريّة واللبنانيّة مع ما يعنيه من انتقال للمسلحين بين البلدَين وفي الاتجاهَين. ولذلك يرجّح أن يترافق خوض الجيش السوري لمعركة القلمون مع قيام مناخات خارجيّة خصوصاً غربيّة، يمكن أن تغضّ النظر عن دخول عسكري سوري محتمل إلى عمق الأراضي اللبنانيّة. أي أن انطلاق معركة القلمون قد يعني تكوُّن أجواء غربيّة وحتى أميركيّة باتت راضية أو حتى راغبة في تولي الجيش السوري مهمّة تنظيف تلك المنطقة بجانبَيها السوري كما اللبناني من الجهاديّين الأصوليّين، مع ما يعني ذلك من تداعيات على الوضع اللبناني برمّته.
ثالثاً وأخيراً، جبهة درعا. ما يرجّح حصولها هو أن الجيش السوري بات مسيطراً إلى حدّ كبير على منطقة السويداء الدرزيّة شرقي درعا، كما على المناطق المحاذية للجولان المحتل إلى الغرب من درعا. وهو ما جعل الحصار يشتدّ على هذه المدينة التي كانت منطلق الأحداث السوريّة منتصف آذار/مارس 2011. غير أنه هنا أيضاً، للمعركة أبعاد خارجيّة. فدرعا متواصلة مع الحدود الأردنيّة. ويُحكى أنها الخاصرة المفتوحة للتدخّل السعودي المباشر في الأحداث السوريّة، من خلال معبر الرمثا بين سوريا والأردن فضلاً عن مجاورتها لسفح الجولان المحتلّ من قبل إسرائيل. وبالتالي فإن ذهاب الجيش السوري إلى حسم معركة درعا قد يحمل الكثير من الافتراضات حيال الأوضاع الخارجيّة المعنيّة بالأزمة السوريّة. وذلك بدءاً من احتمال قرار دمشق قطع أوصال الرياض في داخلها بعد ارتياحها إلى موقف عمان كما إلى مواقف مختلف العواصم الأخرى المحاذية لها من أنقرة إلى بغداد وبيروت، وصولاً إلى احتمال تراجع السلطات السعوديّة عن التورّط في سوريا، وانتهاءً باحتمال قيام تقاطع كبير بين أكثر من طرف إقليمي "صديق" لسوريا أو "عدو" لها على إنهاء حالة الحرب في داخلها وإعطاء إشارة ذلك عبر حسم المعركة حيث بدأت، في درعا بالذات.
هكذا، تبدو خيارات المعارك العسكريّة في سوريا أهمّ من خيارات الحلول السياسيّة اليوم. حتى يمكن طرح السؤال: من أجل معرفة مصير الصراع على دمشق، هل علينا فعلاً أن ننتظر المرحلة الثانية من مؤتمر جنيف، أم المرحلة الأولى والأخيرة ربما من إحدى معارك حلب أو القلمون أو درعا؟؟