تزامناً مع اقتراب موعد الانتهاء من صياغة مسوّدة الدستور الجديد، يطالب الإخوان بالحوار ويتخلون عن [الرئيس المخلوع محمد] مرسي! فقد أصدر تحالف دعم الشرعيّة بياناً من 1800 كلمة (!) تحت عنوان "رؤية استراتيجيّة للتحالف الوطني لدعم الشرعيّة ورفض الانقلاب". وملخّص البيان أن الإخوان –مختبئون خلف التحالف– يريدون الآن الحوار ويتخلّون عن مرسي، ربما بعد أن اكتشفوا أن خطتهم لتخريب خريطة الطريق الجديدة قد فشلت وأن المصريّين على وشك التصويت على الدستور الجديد.
وقد حفل البيان بالتكرار والإطناب المملّ والاسترسال الشديد. فإذا كان الخطاب المشؤوم والأخير لمرسي قد تضمّن تكرار لفظ "الشرعيّة" 59 مرّة، فإن البيان الجديد احتوى 40 تكراراً لكلمة "انقلاب" وأكّد عشرات المرات على "إنهاء الانقلاب" و"كسر الانقلاب" و"رفض الانقلاب"، علاوة على تكرار كلمة "شرعيّة" نفسها 14 مرّة. وبالطبع فإن "الانقلاب" هو عكس "الشرعيّة" و"كسر الانقلاب" هو مرادف لـ"الشرعيّة". بالتالي فإن إجمالي ذكر "الشرعيّة" زائد "كسر الانقلاب وإنهائه ورفضه" وصل إلى 54 مرّة في البيان. وبهذا نجح الإخوان في إعادة إحياء خطاب مرسي بصورة جديدة لكن من دون مرسي نفسه، بحيث خلا البيان تماماً من ذكر مرسي وتجاهل المطالبة بعودته إلى الحكم.
كذلك كرّر البيان كلمة "ثورة" 20 مرّة وأكّد على ضرورة تحقيق طموحات الثورة، على الرغم من أن عدداً كبيراً من الثوار يرون أن الإخوان هم أعداء الثورة الذين خانوها ومنعوا وصولها إلى السلطة وتاجروا بدماء شهدائها. فقد رفضوا أولاً المشاركة فيها على لسان [المتحدّث الإعلامي لجماعة الإخوان المسلمين] عصام العريان، ثم نزلوا بعد أربعة أيام من اندلاعها لسبب وحيد، وهو أن يستخدموا نزولهم في ركوب الثورة ويقايضوا فيما بعد على انسحابهم من الميدان بالتفاوض سراً مع [رئيس جهاز الاستخبارات العامة الأسبق] اللواء عمر سليمان بعد يومَين فقط من ذلك النزول المتأخّر للحصول على مكاسب سياسيّة تخصّ العفو عن معتقلين من ضمنهم [نائب المرشد العام للإخوان المسلمين] خيرت الشاطر وآخرين وحصولهم على حزب سياسي شرعي، في مقابل الانسحاب من الميدان والقبول باستمرار سليمان كقائم بأعمال الرئيس [المخلوع حسني مبارك] لحين انتخابه رسمياً رئيساً للبلاد في أيلول/سبتمبر من العام 2011. وعندما رحل مبارك وسليمان، تاجروا بهرولتهم الأولى وخيانتهم للثورة كدليل على ولائهم للنظام واستعدادهم للتعاون مع المجلس العسكري، واتفقوا معه على تفويضهم تعديل دستور 1971 بحجّة أنهم أكثر خبرة وتنظيماً ويسيطرون على الميدان (وهو ما اكتشف المجلس العسكري في ما بعد زيفه بدءاً من مليونيّة 27 أيار/مايو 2011 والتي أطلق عليها الإخوان اسم جمعة الوقيعة). وهذا يعني أنهم عملياً سيطروا على رسم خريطة طريق فاسدة تشتق شرعيّة زائفة لمخطّط "التمكين"، من أجل تفصيلها على قياس مصلحتهم الخاصة لكتابة دستور على هواهم والاستيلاء على كلّ السلطات و"أخونة" الدولة وجميع مؤسّساتها.
وعدا خلو البيان من ذكر مرسي، فهو لم يتضمّن أي شيء جديد ولا مفيد ولا أي مبادرة يمكن تنفيذها عملياً. فقد ذكر البيان مثلاً أن الإطار العام للخروج من الأزمة هو "دعم ثورة الشعب المصري لرفض الانقلاب"، على الرغم من أن خروج الإخوان من الحكم جاء بسبب ثورة الشعب المصري وخروج الملايين للمطالبة بالانتخابات المبكرة أو برحيل مرسي. كذلك يؤكد البيان على أن "المقاومة السلميّة هي السبيل الوحيد لإنهاء الانقلاب وعودة المسار الديمقراطي"، وقد تناسى أن الإخوان هم أوّل من استخدم العنف. فهم الذين قتلوا المتظاهرين وأقاموا سلخانات التعذيب لإرهابهم منذ أحداث "الاتحاديّة"، مروراً بقتل أهالي "بين السرايات" و"المنيل" بينما عسكروا في ميدانَي "النهضة" و"رابعة" وبذبح رجال الشرطة وبالاعتداء على المواطنين والكنائس وأقسام الشرطة في "كرداسة" و"دلجا"، علاوة طبعاً على تصريح [القيادي الإخواني محمد] البلتاجي الخاص بربط توقف العمليات الإرهابيّة في سيناء بعودة الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي.
لم ينسَ البيان أن يعترض على خريطة الطريق وعلى لجنة الدستور بحجّة أنها "ليست منتخبة"، على الرغم من أن لجنة دستور الإخوان "المنتخبة" لم تضمّ في النهاية سوى الإخوان وحلفائهم، وجميعهم ينتمي إلى تيار واحد طائفي متطرّف لا يمثّل سوى نسبة صغيرة جداً من الشعب المصري.
وفجأة وبعد عشرات السطور، تحدّث فيها البيان بإسهاب عن "دعم ثورة الشعب المصري لرفض الانقلاب" (بحسب ما هو معروف عن الثورات، فإنها فعل حركي في الشارع لا يتضمّن طاولات للحوار ولا غرف للمفاوضات والصفقات) يأتي البيان قرب نهايته يطالب للمفارقة بالحوار مع بعض التمنّع، فيقول "رغم دعم التحالف لثورة الشعب المصري، إلا أنه لا يرفض أي جهود جادة ومخلصة تستهدف حواراً سياسياً جاداً للخروج بمصر من أزمتها وفقاً للقيم الحاكمة السابقة ومن خلال التوافق لتحقيق الصالح العام للبلاد"!
لا نعلم على وجه اليقين ماذا يريد الإخوان وأين كانوا من الحوار في خلال الأسابيع والأشهر الماضية، عندما كانوا يعيثون الفساد في الشوارع بمسيرات واستعراضات ميليشيات عنيفة مسلحة، ويقيمون المتاريس الحربيّة لتقسيم القاهرة والجيزة، ويهاجمون أقسام الشرطة والمنشآت الحيويّة، ويحرّضون على هدم الكنائس، ويعتدون على من يعترض مسيراتهم العدوانيّة.
ولا يخلو البيان من الشروط إذ يشير إلى أن "أي حوار جاد للخروج بمصر من أزمتها يستلزم القيام بعدة خطوات" وأهمها : "توفير مناخ الحريات" - والمقصود به طبعاً الإفراج عن قيادات الإخوان، و"إقرار القيم الحاكمة اللازمة للحوار" - وبالتأكيد أوّلها ضرورة كسر الانقلاب، أما الشرط الثالث الإبداعي للحوار فهو "الدخول في حوار جاد حول الخروج من الأزمة"! أما موضوع الحوار فهو من وجهة نظر البيان "كيفيّة الخروج من الأزمة الراهنة".
ويثبت هذا البيان إفلاس الإخوان الفكري الكامل، وأنهم يغرقون في أعماق بحر من النكران. فهم يتجاهلون العديد من الاعتبارات التي تتناقض مع عقلانية الشروط التي يضعونها للحوار:
أولاً: هم استخدموا كلّ ما في جعبتهم من أسلحة وإرهاب وحرق وتدمير وتخريب في محاولات مستميتة لاستنزاف وهدم كيان للدولة المصرية وتوصيلها لحافة الإفلاس وترويع وتعطيل حياة المصريين ليثوروا ضد الحكومة المؤقتة، لكن باءت محاولاتهم بالفشل، واستمرت الدولة والحياة رغم ذلك وتعايش معظم المصريّين مع الأوضاع.
ثانياً: بعد ما يقرب من ثلاث سنوات تجرّع فيها الشعب الأهوال بسبب خريطة الطريق الدائريّة التي ابتكرها الإخوان في آذار/مارس 2011، فإن المصريّين بغالبيّتهم العظمى سئموا من هذه الشقلباظات والاشتغالات السياسيّة وليس لديهم أي نيّة لإعادة النظر في خريطة الطريق. فمن يريد أن يلتحق بها فأهلاً وسهلاً، ومن لا يريد فأمامه صناديق الاستفتاء على مشروع الدستور ويستطيع أن يحشد لها إما للموافقة أو للرفض.
ثالثاً: إن حجم الإخوان الصغير وتأثيرهم السياسي الضئيل قد انكشف أمام الجميع ولم يعد خافياً على أحد. فما الذي يجبر المصريّين وحكومتهم الآن على الخضوع لشروط متعسّفة تعيد المسار إلى المربّع صفر مرّة أخرى؟
رابعاً: بعد كلّ هذا الشحن المعنوي وخطاب التحريض وادعاء احتكار الشرعيّة والصواب المطلق، من الصعب الآن أن يقتنع شباب الإخوان والتيارات الجهاديّة والتكفيريّة بحوار تحت أي شروط واقعيّة حتى لو قبلتها قيادات الجماعة. وبالتالي سيظلون في تشددهم مطالبين بشروط مستحيلة، مما سينسف فرص أي حوار.
إن المبادرة التي يجب أن يفكّر فيها الإخوان يجب أن تتضمّن إجابات عن هذه الأسئلة على أقلّ تقدير:
· كيف سيقنّنون وضعهم الإجرامي الذي استمرّ تحت الأرض وخارج إطار القانون لمدّة 65 عاماً (!) منذ حلّ الجماعة في العام 1948؟
· كيف سيقومون بتصفية أصولهم وشركاتهم وحساباتهم السريّة؟
· كيف سيصفون ميليشياتهم ويسلّمون أسلحتهم التي كدّسوها هم وحلفاؤهم الإرهابيّون في غفلة من الزمان؟
· كيف سيحرّرون حزبهم وجمعياتهم من التبعيّة لمنظمة سريّة غير شرعيّة؟
· كيف سيفضّون التداخل ما بين تنظيم دولي يدينون له بالتبعيّة وبين متطلبات الاستقلال الوطني لكلّ الأحزاب السياسيّة في مصر؟
· كيف سيتوقّفون عن شفط أموال النقابات والعبث بالعمل النقابي والطالبي؟
· كيف سيعيدون كتابة برنامجهم بحيث يحترم وجود مصر كدولة مستقلة، بعيداً عن فلسفة "طز في مصر"؟
· كيف سيحمون الأمن القومي لمصر وهم لا يعترفون بالدولة الوطنيّة في الأساس؟
· كيف سيفضّون تحالفهم مع جماعات الإرهاب الدولي ويضعون نهاية لمسرحيّة "الإرهابي الطيّب والإرهابي الشرير"؟
والأهم من هذا كله:
· كيف سيعتذرون من الشعب المصري بصدق وبعيداً عن التقيّة والكذب والخداع والنفاق؟
· كيف سيعتذرون لشباب الإخوان ومؤيّديهم ويصارحونهم بالأخطاء الكارثيّة التي ارتكبتها قيادات الجماعة وأدّت إلى هذا الوضع؟
· كيف سيقنعون الشعب المصري مرّة أخرى بأنهم جزء منه وأن جماعتهم ليست كياناً فوقه متعالياً عليه يدّعي احتكار الربانيّة ويبتغي "فتح" مصر وكأنه قوة احتلال؟
في النهاية، علينا أن نعي جيداً أن السعي إلى إقامة منافسة سياسيّة ما بين أحزاب عاديّة وبين جماعة سريّة دوليّة تمتلك الشركات والمليارات وخارجة عن كلّ القوانين وتعمل بمثابة دولة داخل الدولة، هو عبث لا طائل منه وقد كان جزءاً من منافسة مسرحيّة سمح بها النظام السياسي لأغراض معيّنة ولم يعد ممكناً التعايش معها.
إن خروج جماعة الإخوان تنظيمياً وفكرياً وسياسياً من هذه الأوضاع الشاذة، هو جوهر المبادرة التي يمكن أن يهتمّ المصريّون بسماعها منهم وليس بياناً مكرّراً من 1800 كلمة هي عبارة عن صورة مرآة لخطاب مرسي غير المأسوف عليه.