جلست مريم ابنة السبعة عشر ربيعاً وحيدةً في ظلام غرفتها الدامس، تستذكر أياماً امتدّت عاماً ونصف العام قضتها في منزل زوجها الذي أجبرت على الزواج منه عندما كانت تبلغ من العمر 15 عاماً هرباً من الفقر.
حملت مريم دميتها الصغيرة وظلّت تحدق بها لبرهة قبل أن تستعيد شريطاً طويلاً من ذكريات ترتبط بمسلسل متواصل من الضرب والشتائم كانت قد تعرّضت له في منزل زوجها. وفجأة قطع خلوتها صوت والدها الذي راح يناديها من الخارج. هرعت الفتاة مسرعةً ملبيةً نداء والدها، فقال لها بحزم وإصرار "عليك أن تعودي إلى زوجك. ومهما فعل بك عليك أن تتحملي ذلك، هل تفهمين ما أقول؟!".
وتكمل مريم صاحبة البشرة السمراء الفاتنة روايتها بكلمات ممزوجة بالقهر في خلال حديثها إلى "المونيتور"، مستعرضة تفاصيل تجربتها المريرة جرّاء زواجها من رجل يبلغ من العمر 37 عاماً. فقد أملى عليها والدها هذا الزواج، بعدما بات غير قادر على تلبية أدنى متطلباتها المعيشيّة والحياتيّة وحتى التعليميّة.
في العام 2012، سجّلت نحو 17 ألف حالة زواج في المحاكم الشرعيّة في قطاع غزّة. في 35% منها، يكون عمر الزوجة فيها دون الـ17 عاماً، ويتمّ تسجيلها من دون علم هذه المحاكم بعمر الفتاة الحقيقي. إلى ذلك رفعت نحو 2700 قضيّة طلاق،25% منها موضوعها فتيات قاصرات، وفقاً لما يوضحه المحامي بكر عزام المتخصّص في القضايا الشرعيّة في حديث إلى "المونيتور".
بالنسبة إلى مريم، لم يؤهّلها صغر سنّها لتحمّل متطلبات الحياة الزوجيّة. وتقول "لقد اُنتزعت من بين ألعابي الصغيرة وأُخرجت من مدرستي قسراً، وسُلمت إلى يدي زوجي الذي لم ألتقِ به إلا أمام القاضي الذي أبرم عقد زواجي".
مؤخراً،هربت مريم من منزل زوجها وعادت إلى منزل والدها، بعدما اكتشفت أنها لن تستطيع إكمال حياتها في منزل ذلك الرجل الذي يواعد نساء أخريات بحجّة صغر سنها وتفكيرها الطفولي الذي لا يرتقي إلى تفكير رجل في مثل سنّه، بالإضافة إلى تعرّضها للضرب عند أي خلاف معه.
تتباع روايتها "عندما أخبرت والدي بهذا الأمر، قال لي هذا أمر طبيعي يقع به معظم الشبان هذه الأيام، إلا أنني لم أقبل بذلك".
ومريم التي تطالب اليوم بالطلاق من زوجها، ليست القاصر الوحيدة التي تزوّجت قسراً من دون مراعاة عدم اكتمال بلوغها وقدرتها الجسديّة والنفسيّة على تحمّل الحياة الزوجيّة. فتتشابه فصول تجربة سارة بحكاية مريم، إلا أنها تختلف بالأسباب والذرائع.
وهي تروي حكايتها لـ"المونيتور"، كانت سارة تنظر إلى صورة فوتوغرافيّة التقطت لها قبل زواجها. فيها، بدا وجهها مشرقاً وملامحها طفوليّة، إلا أنها باتت اليوم صاحبة جسد هزيل ووجه نحيف وعينَين غائرتَين يظهر عليهما التعب الشديد.
تخبر "تزوّجت عندما كنت أبلغ من العمر 16 عاماً فقط. لقد أرغمني والدي وأشقائي على الزواج من فتى يبلغ من العمر 17 عاماً، للتخلّص من أعبائي المعيشيّة وديون والدي المتراكمة".
وتشير إلى أن المشاكل الزوجيّة بدأت بعد أسبوع واحد فقط من الزواج بسبب متطلبات زوجها وعائلته التي لم تتمكّن من تلبيتها وهي فتاة في عمر الزهور. تتابع "إن عائلتي لم تأخذ بعين الاعتبار صغر سني وطفولتي، ولم تراعِ اشتياقي لعروستي البلاستيكيّة عندما ابتعد عنها".
وكانت سارة قد تعرّضت إلى أزمة كبيرة عندما حملت من زوجها واضطرت للخضوع إلى عمليّة قيصيريّة بسبب مشاكل صحيّة أثناء الولادة، وبعد أربع ساعات من الألم والصراخ أنجبت طفلاً غير مكتمل النموّ.
تضيف وقد بدأت عيناها تدمعان "لم أتحمّل كلّ ذلك. هربت من منزل زوجي تاركة كلّ شيء خلفي، وصرخت في وجه الجميع: أريد الطلاق".
وأخيراً حصلت سارة على طلاقها بعد عامَين من زواجها، وهي تبلغ اليوم من العمر 18 عاماً. وهي لا ترغب مطلقاً بالزواج مرّة أخرى بعد تجربتها المريرة التي خلقت داخلها خشيةً كبيرة من الحياة الزوجيّة.
أسباب عديدة تدفع العائلات الفلسطينيّة إلى إجبار بناتها على الزواج في عمر الزهور، منها الفقر والبطالة وتدنّي المستوى المعيشي، فضلاً عن عادات وتقاليد قديمة بحسب ما يفيد المتخصّص في علم الاجتماع الدكتور فضل أبو هين في حديث إلى "المونيتور".
ووفقاً لتقرير صادر عن منظمة العمل الدوليّة في حزيران/يونيو الماضي، فقد "ارتفع عدد الفلسطينيّين العاطلين عن العمل بنسبة 15.3 في المئة بين عامَي 2011 و 2012 ليصل معدّل البطالة إلى 23 في المئة".ً وأشار التقرير إلى أن "الوضع أسوأ في غزّة حيث وصل معدّل البطالة إلى 31 في المئة وإلى نحو 50 في المئة بين النساء".
أضاف التقرير ذاته "يوجد 18.4 في المئة من الشباب الفلسطيني خارج القوى العاملة وخارج التعليم، بما في ذلك 31.4 في المئة من الشابات".
بالنسبة إلى أبو هين "الفتيات دون الـ17 عاماً يتعرضن إلى أسلوب غير إنساني في الزواج، إذ يتمّ إجبار الفتاة وربما ضربها من أجل القبول بزواج يقبل به والدها، من دون مراعاة لرأيها أو عدم اكتمال نضوجها أو حتى دراستها".
ويوضح أن معظم العائلات الفقيرة التي لا تستطيع توفير متطلبات الحياة، لا تفوّت فرصة لعقد زواج فتياتهنّ القاصرات، وذلك بهدف التخلّص من أعبائهن الماليّة ومصاريفهنّ التعليميّة والصحيّة.
ويبيّن أبو هين أن معظم العائلات الفلسطينيّة في المجتمع الفلسطيني تبحث عن فتيات يبلغن في العمر ما بين 15 و19 عاماً لتزويجهنّ لأبنائها، وسط اعتقاد سائد يقول بأن الفتيات الصغيرات قابلات لإعادة تربيتهنّ وفق عادات عائلة الزوج أكثر من البالغات.
يضيف "ما يجري خطأ فادح وخطر يهدّد المجتمع ويحطّم الفتاة وشخصيّتها"، لافتاً إلى أن الفتيات القاصرات غير مكتملات جسدياً وفكرياً، ما يؤدّي إلى حدوث المشاكل الزوجيّة وإلى عدم مقدرتهنّ على تلبية متطلبات الزوج المعيشيّة والجنسيّة أيضاً، الأمر الذي يسبّب الطلاق في معظم الأحيان".
بالنسبة إلى المحامي بكر عزام فإن "قانون الزواج ينصّ على اشتراط الأهليّة في النكاح، أي أن يكون عمر المخطوبة سبعة عشر عاماً فأكثر". ويشدّد على أن عقود الزواج التي تُبرَم خارج هذا القانون تعدّ باطلة قانونياً.
ويوضح أن المحاكم الشرعيّة في قطاع غزّة تلتزم بتزويج الفتيات اللواتي تخطّين السنّ القانوني، ولكن ثمّة العشرات من العقود التي تبرم داخل المحاكم الشرعيّة بعد تزوير شهادة ميلاد الفتاة أو تسنينها، فيعقد القاضي قرانها بناء على شهادة الأهل".
وتجدر الإشارة إلى أن ثمّة عقود زواج أخرى تبرم خارج إطار المحاكم وداخل إطار العائلة في ظروف وأوضاع غير إنسانيّة، من خلال إحضار المأذون لعقد النكاح على فتاة قاصر بعد الحصول على إذن من مختار العائلة، ويتمّ تسجيله في المحكمة الشرعيّة بعد بلوغ الفتاة السنّ القانوني.
مريم وسارة نموذجان على سبيل المثال لا الحصر، لضحايا المشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي يعاني منها المجتمع الفلسطيني. فحكايتاهما ترتبطان ارتباطاً وثيقاً بعادات قديمة لا تمنح الفتاة حقّ تحديد مصيرها، وسط غياب واضح للهيئات القانونيّة والتشريعيّة التي قد تمنحها حيزاً في تحديد مصيرها، فضلاً عن عدم وجود أي لوائح تردع كلّ من يجبر ابنته على الزواج وهي لم تبلغ بعد السنّ القانوني.