وصل النزاع بين الدولة المصريّة وجماعة الإخوان المسلمين إلى حائط مسدود. فبعد أسابيع من الترقّب، تحرّكت الشرطة صباح الأربعاء في 14 آب/أغسطس الجاري لإخلاء مخيّمين للإخوان في الجيزة وشرق القاهرة، وقد رافقتها في ذلك جرّافات عملت على إزالة الحواجز والسواتر الترابيّة التي أقامخا مؤيّدو الرئيس المعزول محمّد مرسي. وقد غطّى التلفزيون المصري الرسمي ومحطّات تلفزيونيّة أخرى خاصة معظم تفاصيل هذه العمليّة مباشرة. تمّ فضّ اعتصام النهضة من دون صعوبة كبيرة، وهو الأصغر بين الاعتصامَين القائمَين. أما فضّ اعتصام رابعة العدويّة فكان أشدّ صعوبة، لكن الشرطة تمكّنت من تفريق معظم من فيه بحلول المغيب. وبلغ عدد القتلى في اعتصام رابعة العدويّة في مدينة نصر 202 فيما سجّل سقوط 87 قتيلاً في ميدان النهضة، بحسب ما أفاد متحدّث باسم وزارة الصحّة. أمّا على صعيد البلاد ككلّ، فقد بلغت حصيلة القتلى 525 قتيلاً من بينهم 43 عنصراً أمنياً، وفقاً للبيانات الأخيرة الصادرة عن وزارة الصحة.
في الصباح، أعلنت القوى الأمنيّة أنها اعترضت اتصالات لقادة الإخوان المسلمين أمروا فيها عناصرهم بتنفيذ موجة من الاعتداءات على مراكز الشرطة والمنشآت الحكوميّة. وقد نفّذت الجماعة تهديداتها خلال النهار باقتحام مراكز عدّة للشرطة ومهاجمة مبانٍ حكومية ومنشآت عسكريّة. كذلك، تعرّضت أكثر من 40 كنيسة بالإضافة إلى مدارس مسيحيّة عدّة للهجوم، وقد أضرمت النيران في عدد منها في ستّ محافظات. بالإضافة إلى ذلك، حاول أفراد من الإخوان قطع طرقات رئيسيّة عدّة في القاهرة والجيزة والإسكندرية، وفي مناطق أخرى في كافة أنحاء مصر.
عندما تطرح سؤالاً في مصر، غالباً ما تأتيك الإجابة على شكل سؤال آخر. وبالتالي، فإن السؤال الآتي "لماذا كان من الضروري إلى هذا الحدّ فضّ الاعتصامَين مع العلم بأن عدد القتلى سيكون مرتفعاً جداً؟"، يحتمل الإجابة الآتية "لو لم يكن ذلك ضرورياً جداً، لماذا إذاً ردّ الإخوان المسلمون بإشعال البلاد برمّتها؟".
على مدى ستّة أسابيع، توسّعت حدود مخيّم رابعة العدويّة شيئاً فشيئاً إلى أن شملت كيلومتراً بعد كيلومتر شوارع مجاورة، بما في ذلك طريق الاوتوستراد التي تصل مدينة نصر وبقيّة أرجاء القاهرة بمطار المدينة. وفي أحد الأيام، لم يعد اعتصام رابعة العدويّة مجرّد اعتصام، بل بلدة زاحفة أو بالأحرى دولة المدينة مع تحصينات وقوى شرطة داخليّة، إلى جانب مخيّمات للتعذيب وعناصر لمراقبة الحدود. وبالتالي، بات (اعتصام) رابعة العدويّة صورة حيّة عن "الدولة الموازية" التي نادى بها الإخوان المسلمون.
أدان البيت الأبيض "أعمال العنف ضدّ المتظاهرين"، داعياً الحكومة و"الأطراف المصريّة كافّة إلى الامتناع عن اللجوء إلى العنف وتسوية خلافاتهم سلمياً". وعلى نحو مماثل عبّر نائب رئيس الجمهوريّة المصري للعلاقات الدوليّة محمد البرادعي عن رفضه إراقة الدماء، مقدّماً استقالته من منصبه. لكنّ جبهة الإنقاذ الوطني التي كان البرادعي يقودها حتى زمن ليس ببعيد، أشادت بتحرّكات الشرطة والحكومة الأربعاء. وفي شباط/فبراير الماضي، كان البرادعي قد أعلن رفضه المشاركة في انتخابات في عهد محمّد مرسي، فأثّر قراره هذا في المداولات الداخليّة لجبهة الإنقاذ الوطني حول هذه المسألة. ونتيجة لذلك، شعرت جبهة الإنقاذ بضغط معنويّ للإعلان عن موقف "ثوريّ" مماثل، فقرّرت مقاطعة الانتخابات بدورها. لكن عندما تقرّر بالفعل عدم المشاركة في الانتخابات وتأمل تدخّلاً عسكرياً يرافقه طلب شعبيّ كبير للإطاحة برئيس البلاد، ما الذي كنت تتوقّع حصوله لاحقاً؟
وفي مقالة سابقة نشرها "المونيتور"، أوضحنا أن النزاع بين الدولة المصريّة و"الدولة الموازية" الخاصة بالإخوان المسلمين وصل إلى مرحلة وجوديّة لا يمكن فيها أن يضمن أي من الطرفَين بقاءه إلا إذا انتفى الطرف الآخر، على الأقل إيديولوجياً وتنظيمياً. في خلال الثورة المصريّة المستمرة منذ سنتَين ونصف السنة، تمكّنت الشرطة من تفريق اعتصامات متعدّدة في ميدان التحرير وغيره من الميادين من دون التسبّب بخسائر تُذكر في الأرواح. لكنّ هذا الاعتصام (رابعة العدويّة) لم يكن مجرّد اعتصام، بل كان نقطة التحوّل في نزاع عمره 85 سنة ما بين دولتَين هما دولة الإخوان المسلمين وخلافتهم الموعودة والدولة المصريّة الوطنيّة والتي هي الدولة الأكثر قدماً في التاريخ. الأطراف السياسيّة قد تتفاوض وتتقاسم السلطة والبشر قد يتعايشون على الرغم من اختلاف أعراقهم ومعتقداتهم، لكن دولتَين تحاولان قيادة الشعب نفسه على الأرض نفسها لا يمكن أن تتعايشا. هذه هي طبيعة النزاع اليوم في مصر، وهذا هو أحد الأسباب التي تفسر لما يخوض الإخوان المسلمون هذه المعركة كما لو كانت نهاية العالم وشيكة.
بلغ الإخوان المسلمون نقطة يعتبرون فيها ما يحصل معركتهم الأخيرة. وبالتالي، أمامهم خياران، إمّا الانتصار وإمّا "الشهادة" التي نادى بها محمد البلتاجي وصفوت حجازي وغيرهما من قادة الإخوان لحثّ مؤيّديهم في ميدان رابعة العدويّة على انتقاء أحد هذين الخيارَين الدمويَّين: الانتصار أو الموت. وبينما ينأى عدد كبير من قادة الإخوان المسلمين عن الشهادة التي استفاضوا في وصفها لمؤيّديهم بطريقة شاعريّة، لا يفترض بنا أن نتوقّع انتهاء هذا النزاع قريباً. فعناصر الإخوان في مختلف أنحاء البلاد يلعبون ما قد تكون أوراقهم الأخيرة. إنهم ينشرون الفوضى ويدفعون بالبلاد إلى حرب أهليّة. وهم يلجأون إلى كلّ الحيل الممكنة لتحقيق هذه الغاية. بدأ استخدام الورقة الطائفيّة بحرق كنائس ومدارس إرساليّات مسيحيّة وشنّ هجمات على متاجر ومنازل للمسيحيّين في صعيد مصر،وذلك في مسعى لإشعال فتيل معارك طائفيّة واسعة النطاق. ويعتبر انهيار الأمن من الأوراق الأخرى المهمّة التي حاول الإخوان المسلمون والإسلاميّون الفوز بها حتى الساعة، من خلال اقتحام العديد من مراكز للشرطة وتحرير السجناء وسرقة الأسلحة منها. وقد ردّت الحكومة بفرض حالة الطوارئ وحظر التجوّل ليلاً لمدّة شهر كامل.
لكن هل كان الأمر يستحق العناء؟ لقد حصلت هذه المواجهة الكبيرة بين الدولة المصريّة والإسلاميّين مرّات عدّة من قبل، وأبرزها عند اغتيال السادات في العام 1981. ويرى الكثيرون أن هذه المواجهة وشيكة وحتميّة، معتبرين أنها لو حصلت بعد سنتين أو ثلاث سنوات من اليوم، لتمكّن الإخوان المسلمون على الأرجح من التغلغل في صفوف الجيش وتقسيمه ولكان احتمال إعادة فرض النظام من دون تقسيم البلاد أضعف ممّا هو اليوم. وفي حين أننا نروّع اليوم عندما نرى المئات وهم يلقون حتفهم، إلا أن حصيلة الموتى كانت لترتفع إلى مئات الآلاف لو أن البلاد تشهد حرباً أهليّة يتقاتل فيها جيشان.
ويدلّ إعلان حالة الطوارئ لمدّة شهر كامل على أن الحكومة لا تتوهّم التوصّل إلى حلّ سريع وسلمي للوضع القائم. هل ستتمكن الدولة المصريّة من تخطّي هذا الاختبار؟ في الواقع، سبق للدولة المترسخة في عقول المصريّين وطريقة عيشهم أن شهدت أياماً عصيبة على مرّ التاريخ. فلنأمل أن تمرّ الأزمة مرور الكرام هذه المرّة أيضاً.
ويبقى أن النزاع في مصر ليس نزاعاً حول نسبة الأرباح الانتخابيّة، ولا حول من يحكم. إنه بالأحرى نزاع حول "ما الذي ينبغي حكمه": دولة مصر أو دولة الإخوان المسلمين.