تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

موسم الإتجار بالجثث!

Religious scholars and supporters of deposed Egyptian president Mohamed Mursi take part in an anti-army rally that started from their sit-in area around Raba' al-Adawya mosque, east of Cairo, July 30, 2013. Europe's top diplomat, Catherine Ashton, shuttled between Egypt's rulers and the Muslim Brotherhood on Monday in a mission to pull the country back from more bloodshed, but both sides were unyielding after 80 Islamist supporters were gunned down. REUTERS/Asmaa Waguih (EGYPT - Tags: POLITICS CIVIL UNREST)

أكثر من شهر مرّ على بدء اعتصام "رابعة العدويّة" الذي يقيمه أنصار الرئيس الإخواني المعزول محمّد مرسي. وعلى الرغم من نجاح الإخوان في استعادة صورة الضحيّة أمام الرأي العام العالمي، وتغذية الإعلام الغربي بفيروس نظريّة المؤامرة كتفسير للحركة الشعبيّة التي أطاحت بمرسي وأنهت حكم الإخوان، وهي الحرف التي أتقنوها على مدى عقود طويلة، إلا أن قيادات الإخوان بدأت تدرك أنها تخوض معركة خاسرة، ولا بدّ لهم من اللجوء إلى مهارة إخوانيّة أخرى عرفوا بها وهي القدرة على إبرام الصفقات، وذلك للخروج من هذا المأزق المصيري بأقل خسائر ممكنة ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مستقبل جماعة الإخوان المسلمين في مصر والعالم. وفي الوقت ذاته تخفي القيادات نفسها إحباطها من الهزيمة عن مؤيّديها، وترفع معنوياتهم وتمدّهم بشحنات عاطفيّة ملتهبة، لضمان استمرار الاعتصامات والمسيرات والتنغيص على السلطة الجديدة وتكدير حياة أهل البلاد، من أجل تحسين الموقف التفاوضي في الصفقة المأمولة.

في الريف المصري، تتّشح النساء بالسواد عموماً. واللون الأسود هو المناسب حتماً للذهاب إلى واجب العزاء في فقيد راحل، ولو كان الفقيد صغير السن لربما ساهمت الضيفة في البكاء والعويل كنوع من المجاملة.

عدد كيير من مؤيّدي مرسي في اعتصام رابعة العدويّة، يأتون من محافظات بعيدة، ولذلك هم شبه معزولين عن العالم الخارجي ولا تصلهم سوى الرسائل التي تنطلق من المنصّة والتي تتحدّث عن التأييد الإلهي والنصر القريب للإسلام، وعن العالم الذي يتحرّك لنصرتهم براً وبحراً، وعن مصر كلّها التي تنتفض تأييداً لهم وغضباً من قادة الجيش ومن يواليهم، وكذلك عن ظهور الأنبياء والرسل والملائكة والوحي في الاعتصام، وأنهم يبشّرونهم بقرب انكسار "الانقلاب" وعودة مرسي الخليفة المنتظر الذي سوف يقيم دولة الخلافة الإسلاميّة وصولاً إلى "أستاذيّة" العالم والهيمنة على الشرق والغرب واستعادة أمجاد الأندلس، طبقا للوعد الذي وضعه حسن البنا مؤسّس جماعة الإخوان. كثيرون من هؤلاء المؤيّدين لا يعلمون أن عشرات الملايين من المصريّين نزلوا لتفويض القائد العام للقوات المسلّحة المصريّة عبد الفتاح السيسي محاربة الإرهاب المحتمل، وأن شريحة واسعة من الشعب لم تعد تحتمل استمرار اعتصامهم وترى في وجود اعتصام مسلّح في عاصمة البلاد خطراً داهماً على الأمن القومي.

وقد شهد هذا الشهر تغيّرات وتقلبات في استراتيجيّة الإخوان في ما خصّ التعامل مع الوضع. ففي البداية حرصوا على جذب التيارات الإسلاميّة والسلفيّة والجهاديّة، وبالتالي امتلأ المكان بالأعلام والبيارق الإسلاميّة التي تشبه أعلام القاعدة، وصدحت المنصة بأصوات الغلاة من الجماعات الإسلاميّة التي هدّدت بقيام "ثورة إسلاميّة خالصة". ثم اتّضح فشل هذه الاستراتيجيّة ومحدوديّة مؤيّديها، عندما جاء مذيع قناة "الجزيرة" أحمد منصور وألقى عليهم درساً في الاستراتيجيّة التي يجب أن يتّبعوها. وخلاصتها أن عودة مرسي لا يجب أن تكون هي الواجهة أو العنوان لاحتجاجاتهم، بل يجب التركيز على أن ثورة يناير تتمّ سرقتها وأنه من الواجب إسقاط حكم العسكر ورفع أعلام مصريّة (بدلاً من أعلام القاعدة)، بالإضافة إلى كتابة رسائل للعالم باللغة الإنكليزيّة تطالب بالديمقراطيّة وتندّد بالانقلاب وتتساءل عن حقوق أصحاب الأصوات التي اختارت مرسي في الانتخابات. وراحت منصّة رابعة العدويّة للمرّة الأولى تذيع الأغاني الوطنيّة المصريّة لشادية والشيخ إمام بدلاً من الاقتصار على الأناشيد الدينيّة. ومهما كانت قدرة الإخوان المسلمين كبيرة على "التقيّة"، إلا أن الحفاظ على هذه الوجوه والأفكار المختلفة  في اعتصام رابعة العدويّة في الوقت نفسه أمر في غاية الصعوبة. وكان من الحتمي أن تصل بعض رسائل التحريض المتطرّفة الموجّهة إلى المتشدّدين، إلى جمهور كان مخططاً أن تتمّ مخاطبته برسائل ترسم صورة وسطيّة معتدلة للإخوان واعتصامهم السلمي.

إلى جانب الرسائل الإعلاميّة الموجّهة إلى الخارج والمرسومة بحرص، فإن الخطّة التي أطلقها المرشد العام لجماعة الإخوان الملسمين محمد بديع والتي ينفذّها بحرفيّة القيادي في الجماعة محمّد البلتاجي والداعية الإسلامي صفوت حجازي تبدو واضحة في إعداد الشباب للاستشهاد.  وكان الدكتور عصام العريان نائب رئيس حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين قد وجّه رسالة داخليّة في أوائل أيام الاعتصام، قال فيها "كلنا سنموت ولكن الموت الذي سنحرص عليه هو الموت الشريف". وحتى اليوم لم تتغيّر رسالته تلك، على الرغم من الرسائل الخارجيّة المخالفة التي تجسّد الاعتدال وتقدّم الإخوان بصورة الضحيّة، والتي يوجّهها المتحدّث باسم جماعة الإخوان جهاد الحداد إلى الإعلام الغربي في الأساس.

إن استراتيجية الضحيّة تحتاج إلى دماء غزيرة تسيل وضحايا يسقطون باستمرار. وبهدف تحقيق ذلك وفي الوقت نفسه إحداث أكبر قدر ممكن من الفوضى والفزع وتعطيل للحياة الطبيعيّة في المجتمع، تقوم قيادات الإخوان بتكثيف الشحن العاطفي بين المعتصمين وتجميل الموت وتصويره وكأنه استشهاد في سبيل الله وليس انتحاراً في سبيل الجماعة. ولا مانع من الحديث عن نزول الرسل والملائكة والوحي في مكان الاعتصام، والتأكيد على أنهم يبشّرون المجاهدين بجنّات تجري من تحتها الأنهار وتزخر بالحور العين والغلمان المخلدين، ثم الدفع بالمعتصمين في مهام على درجة عالية من المخاطرة مثل قطع الجسور وتشييد متاريس على مسافة كيلومترات على طرقات رئيسيّة (مثل طريق المطار) ومحاصرة أو اقتحام محطات القطارات والمطارات والمنشآت العسكريّة ومديريات الأمن والمؤسّسات الحيويّة للدولة، بما يجعل المعتصمين في أوضاع هجوميّة غالباً تؤدّي إلى سقوط ضحايا. وفور سقوط الضحايا، ينشط قسم آخر من الماكينة الإخوانيّة لتبدأ المتاجرة بدماء الضحايا واستغلالهم في المزيد من الشحن المعنوي لبقيّة المعتصمين والمؤيّدين ودعوتهم إلى الانتقام لرفاقهم وجلب متطوّعين جدد للشهادة، وذلك في حلقة دمويّة مفرغة.

ثمّة شيء مختلف يتعلّق بالموت في منطقة الشرق الأوسط. وفي خلال الأعوام الستّين الماضية، أصبح الموت ضيفاً مألوفاً، وربما أليفاً وصديقاً لأهالي المنطقة العربيّة.

ولعقود طويلة، برع التيار الإسلامي في تحويل الشباب المحبط الغاضب إلى استشهاديّين (الاسم الكودي للانتحاريّين!) مستعدّين لتقديم حياتهم في سبيل تحقيق أهداف الجماعة أو الحركة أو المنظمة. البعض يسمّي هذا جهاداً والبعض الآخر إرهاباً. تختلف التسميات ولكن الموت هو العامل المشترك. أما الجديد في الخطّة فهو تقديم النساء في المسيرات على الرجال، حتى إذا سقطت ضحايا تكون النساء هنّ اللواتي يسقطن أولاً. وهو ما حدث مثلاً في مسيرة في المنصورة نتيجة احتكاك أهالي إحدى المناطق بالمسيرة الإخوانيّة، فوقع اشتباك دموي نتج عنه مقتل ثلاث سيّدات. ويظهر التجديد أيضاً في مشاركة أطفال صغار يرتدون أكفاناً بيضاء ويحملون لافتات تقول "مشروع شهيد" في حين يجوبون بمسيرات الاعتصام الذي يختلط فيه المسالمون بالمسلّحين والميليشيات. أما القيادات فتقف وراءهم جميعاً، محتمية بهذه الدروع البشريّة، ما يجعل مجرّد التفكير في فضّ الاعتصام كابوساً دموياً بشعاً.

"قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار"، هي العقيدة التي تفترض أن الحقيقة مطلقة وهي دائماً في صفّ المتكلّم. ولهذا، سيرضى الله عن قتلانا ويحشرهم في زمرة الشهداء، بينما الآخرين على خطأ ومصيرهم في النار لأنهم قاتلونا وهم على خطأ.

من الظلم أن نلقي بالمسؤوليّة كلها على الإخوان، فقد تراجعت سيطرة الإخوان على التحالف الإسلامي، وأصبح هناك لاعبون أهمّ يملكون أسلحة ثقيلة ولا يتردّدون باستخدامها سواء في منطقة بين السرايات أو المنيل أو سيناء، كذلك أعلنت منصّة اعتصام النهضة انضمام تنظيم "القاعدة" إلى الاعتصام. منذ زمن بعيد، لاحظ البعض عمليّة تقسيم للأدوار بين أطراف التيار الإسلامي. فهذا يرتدي وجهاً معتدلاً حليقاً، وذلك متشدّد بلحية وشاربَين حليقَين، وذاك جهادي مشعّث الشعر عنيف ومسلح... لكن وبحسب ما رأى المصريّون، فإن كلّ هذه الأقنعة تتساقط وينطق معظم الإسلاميّين بلسان واحد في الأوقات المصيريّة. وعلى سبيل المثال، في أثناء الانتخابات الرئاسيّة أو جمع التواقيع لحملة "تمرّد"، خرجت قيادات الجماعات الإسلاميّة لتهدّد المصريّين بـ"توليع البلد" إن اختاروا مرشحاً غير إسلامي، أو وقّعوا على عريضة "تمرّد" لإجراء انتخابات رئاسيّة مبكرة.

لقد حظي التيار الإسلامي بتنظيمات قويّة ومنضبطة وذات تمويل جيّد، لعشرات السنين. ولطالما تباهى بقدرته على الحشد، لكن مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي وبدء استخدامها في السياسة وقيام ثورة 25 يناير وظهور فكرة "ديمقراطيّة الحشود"، فقد الإخوان هذه الميزة فجأة. لكنهم حاولوا التعويض عنها بحشد مؤيّديهم من محافظات عدّة في مكان واحد وبتكلفة باهظة. وظهر ذلك في ما أطلق عليه اسم جمعة "قندهار" في 29 تموز/يوليو من العام 2011. ولكن مع تمدّد العقل الجمعي للثورة وتغلغله في المجتمع المصري، تكشّفت محدوديّة تأييد المصريّين للإخوان وللتيار الإسلامي بصورة عامة. ففي يوم 30 حزيران/يونيو الماضي كانت الحشود المناهضة لمرسي والإخوان في مختلف محافظات مصر، تساوي أضعافاً مضاعفة لحشود الإخوان ومؤيّديهم.

"النصر أو الشهادة"، هي العقيدة التي لا تقبل في الحقيقة سوى بالنصر، لأن الشهادة في حدّ ذاتها انتصار، انتصار على أقوى غريزة إنسانيّة، غريزة البقاء والرغبة في الحياة. وهي انتصار لأنها تضمن لصاحبها دخول جنّات الخلد، مع الأنبياء والصدّيقين وحسن أولئك رفيقاً، وانتصار لأنها تضمن ألا يتراجع أي شخص عن هدفه حتى النصر أو فناء الجميع. لربما كان هذا كله مناسباً في حالة الحرب مع عدو أو محتل أجنبي، لكن هل يجوز أن يُستخدَم هذا في حلّ الخلافات السياسيّة داخل بلد واحد؟

فقد الإخوان ميزة الحشود ولا بدّ لهم أن يبحثوا عن ميزة أخرى. ويبدو أن عزمهم قد استقرّ على دخولهم المنافسة من خلال عدد الضحايا أو الجثث. وقد سبق وأشرنا في مقال سابق نشره "المونيتور" في التاسع من تموز/يوليو المنصرم بعنوان "الاختبار الأخلاقي لمصر"، أن "الطرف الذي سيكسب هذه المواجهة هو الطرف الذي ستحمل يداه أقلّ قدر من الدماء بينما يظل ثابتاً على موقفه". ويبدو أن الإخوان قد أخذوا هذه الفكرة بحرفيّتها وعكسوها لتصبح "الطرف الذي سيكسب المعركة هو الطرف الذي سيضع أكبر قدر من الدماء على أيدي الطرف الآخر".

خلال شهر من العنف السياسي، سقط 310 قتلى من بينهم 50 في سيناء بالإضافة إلى ثلاثة آلاف  جريح. من الصعب ومن غير الإنساني أن نصنّف الضحايا بحسب انتماءاتهم السياسيّة، لكن وفي كل الأحوال، لم تكن الجثث كلّها من بين الإخوان. فقد سقط العشرات من الجيش والشرطة والمدنيّين قتلى وجرحى جرّاء هجمات الجهاديّين، علاوة على عشرات الضحايا الآخرين من مواطنين عاديّين سقطوا في خلال اشتباكات وقعت ما بين مسيرات الإخوان واعتصاماتهم وأهالي المناطق التي يمرّون بها مثل المنيل وبين السرايات.

وبذلك تحوّلت "خناقة" الشرعيّة إلى سباق الجثث، وتحوّلت المعركة السياسيّة من منافسة انتخابيّة في الصناديق إلى منافسة في الميادين على الحشود وصولاً إلى منافسة على صناديق من نوع آخر، هي في الحقيقة نعوش. أما من يربح المسابقة فهو من يملك أكبر عدد من الجثث، وليس من الصعب أن نتصوّر النتيجة الدمويّة لمثل هذه المنافسة.

Join hundreds of Middle East professionals with Al-Monitor PRO.

Business and policy professionals use PRO to monitor the regional economy and improve their reports, memos and presentations. Try it for free and cancel anytime.

Already a Member? Sign in

Free

The Middle East's Best Newsletters

Join over 50,000 readers who access our journalists dedicated newsletters, covering the top political, security, business and tech issues across the region each week.
Delivered straight to your inbox.

Free

What's included:
Our Expertise

Free newsletters available:

  • The Takeaway & Week in Review
  • Middle East Minute (AM)
  • Daily Briefing (PM)
  • Business & Tech Briefing
  • Security Briefing
  • Gulf Briefing
  • Israel Briefing
  • Palestine Briefing
  • Turkey Briefing
  • Iraq Briefing
Expert

Premium Membership

Join the Middle East's most notable experts for premium memos, trend reports, live video Q&A, and intimate in-person events, each detailing exclusive insights on business and geopolitical trends shaping the region.

$25.00 / month
billed annually

Become Member Start with 1-week free trial
What's included:
Our Expertise AI-driven

Memos - premium analytical writing: actionable insights on markets and geopolitics.

Live Video Q&A - Hear from our top journalists and regional experts.

Special Events - Intimate in-person events with business & political VIPs.

Trend Reports - Deep dive analysis on market updates.

All premium Industry Newsletters - Monitor the Middle East's most important industries. Prioritize your target industries for weekly review:

  • Capital Markets & Private Equity
  • Venture Capital & Startups
  • Green Energy
  • Supply Chain
  • Sustainable Development
  • Leading Edge Technology
  • Oil & Gas
  • Real Estate & Construction
  • Banking

We also offer team plans. Please send an email to pro.support@al-monitor.com and we'll onboard your team.

Already a Member? Sign in

Start your PRO membership today.

Join the Middle East's top business and policy professionals to access exclusive PRO insights today.

Join Al-Monitor PRO Start with 1-week free trial