هل الحصار على قطاع غزة هو حصار بطون أم حصار عقول؟، وهل الأرفف في المحال التجارية خالية من المواد الغذائية أم أن أرفف المكتبات هي التي تخلو من الكتب والصحف العربية الحديثة؟، هل الحصار الذي فرضته إسرائيل وأمريكا ومعظم الدول الأوروبية على قطاع غزة بعد سيطرة حماس عليه بقوة السلاح عام 2007، حرم وزاراته ومؤسساته ومدارسه من التنمية والمعرفة وترك للممول الأيدلوجي صاحب الرؤية الدينية الساحة ليطبق أجنداته؟.
المعابر
يقول رائد فتوح مدير لجنة تنسيق المعابر في قطاع غزة، حيث إلتقته المونوتر في مكتبه بوزارة الاقتصاد الوطني، أن الحصار على قطاع غزة لم يكن يوماً حصار على الغذاء فالمواد الغذائية الأساسية كالسكر والدقيق والحليب لم تتوقف يوما عن الدخول، ولكن كان هناك حصارا جزئيا على بعض أنواع الشوكولاتة والمسليات كالشيبسي، وحتى هذه المواد تم السماح بدخولها في شهر أكتوبر من العام 2009 بعد حادثة سفينة مرمرة التركية، مشيراً إلى أن الأدوية كذلك لم تتوقف عن الدخول إلى قطاع غزة.
وأضاف أن هناك ثلاثة معابر تعمل في قطاع غزة من أصل ستة معابر: وهي معبر رفح للمسافرين من غزة إلى مصر والعالم الخارجي، ومعبر كرم ابو سالم التجاري والذي يصل بين غزة وإسرائيل وتأتي البضائع من كل أنحاء العالم، ومعبر بيت حانون "إيرز" وهو بين القطاع وإسرائيل .
وذكر أن قائمة الممنوعات من الدخول والتي تشكل نسبة20% تشمل خمسة وستين منتجاً معظمها من المعدات الثقلية وبعض الأجهزة الطبية التي ممكن استخدمها أمنيا أو مواد أخرى كالاسمنت ومواد البناء، وتم مؤخرا منع دخول كل أقمشة الحقائب إلى مصانع الخياطة، وتحجج الاحتلال أنه يتم استخدمها لتغليف السترات المضادة للرصاص التي تستخدمها المقاومة، لافتاً إلى أن قائمة الممنوعات هذه تدخل جميعها القطاع عبر الأنفاق على الحدود بين رفح ومصر.
تعلم السلاح والدين
إذن فإن الحصار المفروض على القطاع حصار سياسي تنموي ثقافي نتائجه لا تقاس بسهولة، ولكن بالاطلاع على حال المدارس الحكومية بعد ستة أعوام من هذا الحصار والعزلة بين الممول الأجنبي وصانع القرار تجد أن النشاطات اللامنهجية التي تطبق في هذه المدارس معظمها عسكرية ودينية.
يقول محمد صيام مدير الأنشطة التربوية في وزارة التربية والتعليم في حكومة غزة للمونوتر أن الحصار أثر بشكل عام على الأداء العام لوزارة التربية والتعليم وعلى الأنشطة بشكل خاص، فقد كانت هناك أنشطة متنوعة ومدعومة طوال العام، والآن تكاد تكون متواضعة بسبب قلة الدعم بعد الحصار الدولي المفروض على الحكومة، وهناك أنشطة تدعمها أحيانا اليونسكو أو اليونسيف ولكن قليلة جدا.
وحول الأنشطة الحالية يقول هناك نشاط جديد بدأ منذ شهر سبتمبر للعام2012، واسمه"الفتوة" وهو في مدارس الذكور حاليا، وسيتم إدخاله لمدارس الطالبات الإناث لاحقا، موضحاً أنه عبارة عن تدريبات بدنية وتعلم على أنواع الأسلحة والدفاع عن النفس والإسعافات الأولية، وقد تم تقديمه إلى36 ألف طالب في قطاع غزة خلال محاضرات أثناء الدوام المدرسي، وتبعها لاحقاً مخيم صيفي في إجازة نصف العام، وكانت المشاركة فيه اختيارية ويشترط موافقة والد الطالب مسبقا، مؤكدا أن هذه الأنشطة ساهمت بشكل كبير من تقليل مشاكل الطالب في البيت وزاد احترام الطالب لعائلته وإدارة المدرسة.
أما نشاط غذاء الروح الديني يوضح صيام للمونوتر خلال لقاء في مكتبه بالوزارة أن هذا النشاط تم تطبيقه منذ عامين ويعتمد على الوسطية في الدين والبعد عن التشدد ويتم اختيار المواضيع من قبل وزارة التربية والتعليم، أما رجال الدين فتختارهم وزارة الأوقاف، وجاءت أهمية تطبيق هذا النشاط في لقاءات دينية مع الطالبات والطلاب ثلاث مرات شهريا خلال الإذاعة المدرسية الصباحية لضمان التوازن النفسي والبدني والروحي للطالب والطالبة، لافتاً إلى أنه بناء على استطلاعات الرأي داخل المدارس كان هناك مطالبات بزيادة الجرعة الدينية فيها، موضحا أن الموضوعات تتركز حول الصلاة والرسول القدوة وأحكام زينة المرأة واحترام الآخر.
تكيف سلبي
الخبير التنموي تيسير محيسن يقول للمونوتر أن عزلة غزة في إزدياد بسبب بعد أهالي القطاع عن الفضاءات التي كانت مفتوحة أمامهم والحاضنات الثقافية المتمثلة في العمل بدول الخليج والدراسة في دول الاتحاد السوفيتي والسفر والالتقاء بالفلسطينيين اللاجئين من كل أنحاء العالم، والتواصل جغرافياً مع الضفة وأراضي الـ48، مضيفاً: " ففي الوقت الحالي في القطاع العديد من الجامعات بالمقابل نجد تحصيل علمي ضعيف، على عكس فترة السبعينات التي كانت الجامعات فيها نادرة ولكن التحصيل العلمي كبير، فهل الدراسة في جامعة بغزة كالدراسة في جامعة موسكو؟".
وأوضح أن عزلة غزة وأجيالها الجديدة ازدادت الآن مع الحصار والاستقطاب السياسي للأحزاب، ما ساهم في تراجع أفق الطرح السياسي والجدل الثقافي في مقابل زيادة الشعارات الفارغة، الأمر الذي تستفيد منه القوى الدينية والأصولية، لأن الناس تهرب إلى السلوك والتفكير الديني، وترك العقل والإبداع، ورغم ذلك نجد هناك وهم الاكتفاء بالقدرات التعليمية والقدرات العسكرية، منبهاً بقوله: "وهذا ما اسميه التكيف السلبي مع العزلة ومن هنا أصبحت مدينة العريش أهم عند البعض من الضفة الغربية، وأصبح التعويض عن كل ذلك عن طريق الأنفاق والفضاء الإلكتروني وإطلاق الصواريخ".
وذكر محيسن للمونوتر الحل هو أن يندمج أهل قطاع غزة في السياقات الطبيعية على مستوى أنفسهم ومع الضفة والخارج وإعادتهم للتواصل بدلا عن الانكماش الذي ازداد بشكل كبير فالكبت في غزة مضاعف والسجن مركب، وإعادة الاندماج يجب أن تكون أولويات المصالحة الوطنية.
لا نبيع الكتب
وحول الكتب واستيرادها التقت المونوتر خميس ابو شعبان (91عاماً) صاحب أول مكتبة في غزة وهي المكتبة الهاشمية التي فتحت أبوابها عام 1942والذي يقول: "الكتب كانت تصل في الماضي من القدس، وكانت تزود مكتبتنا بالصحف والمجلات، ولكن في عام 1946 تم الإتفاق بين رئاسة التوزيع في القاهرة على أن تكون مكتبتي المكتبة الهاشمية هي معتمدة التوزيع في قطاع غزة، فأصبحت الصحف والكتب تصل يوميا بالقطار الذي يربط مصر بفلسطين، وكان هناك العديد من المشاريع الثقافية التي توقفت بسبب الاحتلال الإسرائيلي إذ أغلق المطابع واعتقل عمالها وفرض الضرائب العالية، وذلك بهدف تجهيل الناس"، مشيراً إلى أنه أصبحت الصحف والمجلات تدخل ثلاث مرات أسبوعيا بعد أن كانت تأتي يوميا، إلى أن توقفت تماما منذ عام 2007 وانقطعت بشكل شبه نهائي، وأصبح دخولها عبر معبر رفح نادرا، وأحياناً مرة خلال الشهر ولا تكون حديثة.
ويضيف للمونوتر خلال لقاء في مكتبته بغزة: "طوال العقود التي عشتها، لم أشعر بالألم والحزن مثل هذه الفترة التي لم يعد أحد يشتري فيها الكتب أو يستوردها ورغم ذلك فإني آتي يوميا للمكتبة، وأبقى حتى الساعة الثانية ظهراً، وأتذكر هنا أصدقائي الذين كانوا يأتون يسامروني ويأخذون المجلات ونقيم الندوات الثقافية حتى توفاهم الله جميعا".
استخدام الدين
من جهته يقول الكاتب توفيق ابو شومر للمونوتر: "أخطر أنواع الحصار هو الحصار العقلي والثقافي والمعرفي، له آثاره النفسية والاجتماعية، فنجد المجتمع عاد مرغما من المدنية إلى القبلية، وبالتالي أصبح مختار العائلة ورجل الدين لديه سلطة غير منظورة في مجتمعنا، فقد أصبح الإنسان يقاس بلحيته وبمدى تردده على المسجد، وانتقل رجل الدين من مرحلة التأثير عبر الخطابة إلى التدخل في شؤون الحياة للأشخاص".
ويضيف أن العقول حين تفرغ ولا شيء يغذيها تبحث عن تسديد للفراغ، ونجد في غزة غياب إنتاج المعرفة ونشر الكتب والترجمة، ما يجعل البديل إعادة منتجة الدين بقالب شبه ثقافي وحقنه في عقول الأطفال والمراهقين في الروضات والمدارس، ويستخدم هؤلاء الدين لابتداع مهن جديدة لجني الأرباح عبر توظيف قصص من التراث وإرهاب الناس وتخويفهم، وليس فقط في غزة بل في دول عربية أخرى.
هذه غزة التي تستطيع أن تجد فيها بسهولة أجود أنواع الشوكولاتة الأوروبية، ولكن لا من الصعوبة أن تجد كتابا أو رواية أو مجلة أجنبية صدرت حديثاً.