مع حلول صباح كل يوم خميس ، تشعر العائلات اللبنانية المقيمة لدواعي العمل في دولة الامارات العربية المتحدة، انها دخلت " فترة طمانينة" ، تستمر لغاية صباح يوم السبت ،وهي مدة العطلة الأسبوعية الرسمية هناك . والسبب في ذلك ان النشاط الاداري لاجهزة الامن الإماراتية مشمول بهذه العطلة ؛ وعليه فهي تكف عن ممارسة نشاط متصل لها منذ سنوات يتمثل بإبلاغ لبنانيين بقرار ترحيلهم من الامارات لأسباب تصفها بانها امنية.
وبات اللبنانيون هناك ، يعتبرون هذه العطلة ، ليست فقط " إجازة راحة "، بل ايضا " إجازة من القلق اليومي " الذي يكابدونه على مدار ايام اسبوع العمل، نتيجة خوف كل فرد منهم ، من اتصال قد يرده ،في اية لحظة، من دائرة الشرطة، لإبلاغه بقرار طرده.
ومع حلول العام الجديد، يصبح عمر حملة الترحيل الإماراتية للبنانيين ، غالبيتهم من الطائفة الشيعية، نحو اربع سنوات . والبداية المضمرة لها ، حدثت مع ورود معلومات للامن الاماراتي بان حزب الله يستقبل داخل معقله الشعبي في الضاحية الجنوبية من بيروت ، اشخاصا امارتيين يخططون لاعمال ارهابية ضد نظام الحكم في بلدهم. لايوجد في الواقع مستند مادي يؤكد هذه المعلومة التي ينفيها حزب الله بالطبع . وبكل الأحوال، فان سياقات حملة الترحيل، كما تمظهرت في الفترة الاخبرة ، اصبحت ظاهرة ابعد اثر من كونها مجرد رد فعل على واقعة مفترضة، وحتى لو كانت صحيحة.
ويتركز مصدر الشكوى حيال هذه الحملة، من واقع انها تتم ، سواء بحق افراد او عائلات، من دون الاستناد الى الحد الأدنى من المسوغات او المعايير القانونية العادلة، كما ان طريقة تنفيذها تتسم بأسلوب بوليسي فظ. و قاد هذا الواقع الى جعل حياة العائلات اللبنانية في الامارات، مسكونة"بهاجس مرضي" ، اسمه " سيناريو توقع ترحيلهم في أية لحظة" ، عدا يومي الخميس والجمعة. وما يبدو اكثر مدعاة للالم في اطاره ، هو ان الاعراض النفسية لهذا الهاجس، انتقل الى اطفال هذه العائلات الذين وصلت اليهم اخبار امعان السلطات الاماراتية بممارسة اجراءات طرد مفاجئة ومتتالية لعائلات اقربائهم، قد تطاول ذويهم في اي وقت.
وبحسب احد الاطباء اللبنانيين الذي يعمل في مشفى اماراتي، فان الاطفال اللبنانيين هناك اصبحوا بحق " اطفالا مهاجرين"، كون تكرار عمليات الترحيل المفاجئ لعائلات قريبة لهم ، جعل شعور الخوف لدى أهليهم ينتقل اليهم ، وبدأت تعلق بسلوكياتهم مشاعر الام الغربة التي تصيب عادة المهاجرين الكبار . ويدرس الطبيب عينه، رفع مذكرة الى وزارة الخارجية اللبنانية تلفت عنايتها للاهتمام ، على الاقل ، بالآثار النفسية لهذ الازمة على أطفال المهاجرين في الامارات ، طالما ان حل خلفياتها السياسية والامنية لها ، لا تزال مستعصية. .
وينقل لبنانيون مطردون من الامارات تفاصيل عما يىسمونه سيناريو الترحيل المتكرر منذ ثلاث سنوات ، فيؤكدون انه يمارس من دون سابق انذار ، حيث يتم استدعاء الشخص المنوي طرده، الى دائرة الامن، و يبلغ هناك بان عليه المغادرة مع عائلته خلال ٤٨ ساعة لاسباب امنية، وذلك من دون اعلامه بأية تفاصيل عن تهمته، او السماح له بإحضار بالاستعانة بمحام ،اوحتى اعطائه فرصة اسابيع ليصفي خلالها اعماله التجارية و الخاصة.
مئات العائلات اللبنانية تم ترحيلها من الامارات بهذه الطريقة . ومعظم هؤلاء كانوا في البداية من اللبنانيين الشيعة، ولاحقا اتسع اطار الطرد ليشمل لبنانيين من غير طوائف.
من جانبها تقدم دولة الامارات تفسيرا امنيا لهذه السياسة الممارسة من قبلها، جوهرها يشير الى وجود نشاط لحزب الله وللحرس الثوري الايراني بين اللبنانيين المقيمين فوق ارضها . وتمارس الحكومة اللبنانية إزاء هذا الادعاء ، مقاربة مرنة ، فهي أبلغت السلطات الاماراتية انها لا ترفض أبعاد اي لبناني يثبت انه يعمل ضد امنها، ولكنها تتحفظ على نزوع أبو ظبي الى ممارسة نوع من العقاب الجماعي على اللبنانيين الوافدين اليها للعمالة، تحت عنوان مكافحة خلايا نائمة بينهم . كما انها تتحفظ على معاملة اللبناني في الامارات وفق مبدأ انه متهم حتى يثبت العكس.
و تقول مصادر في بيروت انه جرت طوال الفترة الماضية غير مبادرة رسمية لإنهاء هذه الازمة، ولكن النتيجة لم تكن مرضية، حيث تقوم السلطات الإماراتية بعد كل مبادرة بتخفيف نسبة الطرد لتعود لاحقا الى رفع وتيرتها. وبالحالتين فان اسلوب الطرد لا يزال هو نفسه.
وبحسب مصادر في حزب الله ، فان الامارات عبر إجراءاتها هذه، انما تنفذ خطة ترحيل مبرمجة على عشر سنوات هدفها تصفية مجتمعها من كل الوجود اللبناني، وبخاصة الشيعي منه ، المقيم بين ظهرانيه . احد المسؤولين الإماراتيين الذي تحفظ عن ذكر اسمه، نفى خلال زيارة خاصة له الى لبنان ، وجود مؤامرة من هذا القبيل ، وكشف انه حينما زار رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري الامارات لمعالجة هذه الازمة ، فان المسؤولين الاماراتيين وضعوا امامه معلومات عن نشاطات امنية خطرة لاشخاص في الجالية اللبنانية.
و خلال الشهر الماضي وصل الى بيروت ، المزيد من العائلات اللبنانية المرحلة من الامارات . ومعظم هؤلاء ، قدم الى لبنان ، وهو لا يحمل معه من متاعه سوى حقائب السفر الشخصية . يقول احد المطرودين وهو من منطقة صور الواقعة جنوب لبنان والمقطونة بكثافة من مواطنين شيعة، انه تلقى اتصالا هاتفيا من رقم مجهول خلال صباح احد ايام الشهر الفائت. وكان محدثه على الجانب الاخر من الخط ، ضابط امن، طلب منه الحضور فورا الى مقر شرطة قريب . وفي طريقه الىه، لاحظ محمد ان سيارة تتعقبه، اتضح لاحقا انها تخص الامن الإماراتي .و داخل مكتب الضابط الإماراتي ابلغه الاخير بقرار طرده. قال له بكلمات مقتضبة ، " ان عليه ان يغادر البلد خلال ٤٨ ساعة، بسبب دواعي امنية ".
قبل نحو خمس سنوات، اشترى محمد محلا لبيع الثياب في دبي . ولعدة ساعات بعد خروجه من مكتب ضابط الامن ، حاول ابتداع طريقة لبيعه بسرعة، ولكن ذلك كان مستحيلا لضيق الوقت . وفي النهاية قرر اعتماد اسلوب بات شائعا بين اللبنانيين الذين يتعرضون للطرد الفوري، يتمثل بتفريغ وكالة بيع كاذبة او صورية لمحله الى احد اصدقائه اللبنانيين المقيم هناك.
ولم تكن معاناة محمد مادية فقط ، بل كابد حرجا انسانيا مؤلما، وهو يحاول انتقاء كلماته لإبلاغ زوجته بقرار الطرد . كان يدرك عمق الحزن الذي ستشعر به، حينما تعرف ان عليها في خلال ساعات تدمير " قصة كفاح " من اجل اسرتهما، اشتركا في بنائها في المهجر، طوال أعوام تعتبر الهجرة من اجل الحصول على فرصة عمل، بمثابة ارث لبناني قديم . يقال ان هناك ١٢ مليون لبناني منتشرون في الخارج في مقابل ٤ ملايين لبناني، مقيم في لبنان . ونسبة كبيرة من هؤلاء المهاجرين، ولدوا في البلدان التي هاجر اليها اهلهم في وقت مبكر من القرن الماضي، ويعرف هؤلاء بالجيل الثاني من المهاجرين اللبنانيين الذين لم يعد من امل بعودتهم الى بلدهم.
وضمن هذه القصة - الملحمة، عن تاريخية الهجرة اللبنانية المستمرة، فان فصل هجرتهم الى الامارات لايشكل حيزا كبيرا منها، فهم هناك لا يتجاوز عددهم الثمانين الفا، ولكنها تظل هجرة نوعية نظرا لأمرين ، اولهما انها تأتي بتحويلات مالية اكبر على أصحابها ، قياسا بما يحصله المهاجر اللبناني في بلدان اوروبا وأفريقيا والاميركيتين، وثانيهما ، انها هجرة قريبة جغرافيا، مما يجعل عودتهم الى بلدهم مع أسرهم قائمة كاحتمال شبيه اكيد.