القاهرة – انتهت الجولة الثالثة من المفاوضات على مستوى وزراء المياه لحلّ الخلافات الفنّيّة المتعلّقة بملء سدّ النهضة الإثيوبيّ وإدارته وتشغيله، في الخرطوم في 22 كانون الأوّل/ديسمبر، مجدّداً من دون التوصّل إلى نتائج واضحة ، بينما تمّ إرجاء النقاش في الخلافات إلى الاجتماع الرابع والأخير المقرّر عقده في أديس أبابا في 9 و10 كانون الثاني/يناير.
كان هذا الاجتماع الثالث على المستوى الفنّيّ ضمن خارطة الطريق التي تمّ الاتّفاق عليها في واشنطن في 6 تشرين الثاني/نوفمبر برعاية وزير الخزانة الأميركيّة ستيفن منوشين، وحضور رئيس البنك الدوليّ ديفيد مالباس، حيث تمّ إعطاء مهلة حتّى 15 كانون الثاني/يناير لحلّ الخلافات الفنّيّة بين مصر وإثيوبيا والسودان حول ملء سدّ النهضة وتشغيله، من خلال 4 اجتماعات فنّيّة على مستوى وزراء المياه والخبراء المحلّيّين وحضور ممثّلين عن الحكومة الأميركيّة والبنك الدوليّ، و في حال عدم التوافق واستمرار الخلاف، يتمّ اللجوء إلى وساطة طرف رابع وفق البند العاشر في اتّفاق إعلان المبادئ الموقّع بين رؤساء مصر والسودان وإثيوبيا في آذار/مارس 2015.
وعلى الرغم من الثوابت الفنّيّة الحاكمة لموقف الوفد المفاوض المصريّ حول ملء سدّ النهضة وتشغيله، بعدم السماح لأيّ اجراءات تتّخذها إثيوبيا سواء خلال تخزين المياه في السدّ أم تشغيله بخفض مستوى المياه في بحيرة ناصر عن 165 متراً، أو انخفاض معدّلات تدفّق المياه من النيل الأزرق عن 40 مليار متر مكعّب سنويّاً، باعتبار أنّ ذلك أقصى ضرر يمكن أن تتحمّله مصر جرّاء ملء سدّ النهضة وتشغيله، ناقش الوفد المصريّ خلال الاجتماع كلّ الأطروحات الإثيوبيّة والسودانيّة بمرونة، حيث قال وزير الموارد المائيّة والريّ محمّد عبد العاطي في الجلسة الافتتاحيّة لاجتماع الخرطوم: "مصر فكّرت في الملاحظات والمخاوف التي عبّرت عنها إثيوبيا، وعلى استعداد لإعادة النظر في جوانب معيّنة من موقفنا لمعالجة هذه المخاوف".
تتمحور نقاط الخلاف، حسب ما ذكر مصدر فنّيّ شارك في الاجتماع الأخير في حديث إلى "المونيتور"، حول أنّ "مصر تستهدف الوصول إلى اتّفاق شامل يتضمّن إجراءات وتدابير ملزمة لجميع الأطراف، خصوصاً الجانب الإثيوبيّ، لإدارة السدّ وتشغيله خلال فترات الجفاف والجفاف الممتدّ في شكل يقلّل الأضرار المتوقّعة على مصر".
وأوضح المصدر، الذي طلب عدم ذكر اسمه لسرّيّة المفاوضات: "تمّ استهلاك الوقت خلال اجتماع الخرطوم في مناقشات فنّيّة مطوّلة حول مفهوم الجفاف والجفاف الممتدّ في النيل الأزرق وإلى أيّ مدى يمكن قياس الجفاف، والآليّات والتدابير التي يستوجب على إثيوبيا اتّخاذها لتشغيل سدّ النهضة خلال الفيضان أو الجفاف بما لا يضرّ بمصالح مصر والسودان".
وأكّد المصدر: "الوفد المصريّ يسعى دائماً إلى توجيه الاجتماعات للالتزام بأجندة تقود إلى اتّفاق متوازن يمكن من خلاله التنسيق بين سدّ النهضة والسدّ العالي، وفق المعايير والآليّات الدوليّة المتعارف عليها في إدارة أحواض الأنهار المشتركة"، مضيفاً: "لا تزال هناك العديد من النقاط المنتظر حسمها إذا ما تمّ التوافق على تعريف الجفاف وكمّيّات المياه المنصرفة من النهر، مثل كيفيّة ملء السدّ خلال فترات الجفاف وحجم تصرّفات المياه بعد الملء وإدارة الطوارئ في السدّ سواء في حالة تصرّفات المياه العالية "الفيضان" أم التصرّفات المنخفضة "الجفاف"، وكيف يمكن أن تضمن مصر حقوقها المائيّة خلال مرحلتي الملء أو التشغيل، سواء بمراقبة تصرّفات النهر قبل جسم سدّ النهضة أم بعده".
وتتعرّض الهضبة الإثيوبيّة إلى موجات متكرّرة من الجفاف كان أسوأها تلك الذي حدثت في عام 1984، وتسبّبت في مجاعة راح ضحيّتها ما يقارب المليون إثيوبيّ، بينما تؤكّد الدراسات وتقارير التنبّؤ بالمناخ أنّ تتابع حدوث الجفاف أدّى إلى انخفاض تدفّقات المياه في النيل الأزرق بنسب تصل إلى 20% خلال السنوات الماضية، كما أنّ إثيوبيا تظلّ أكثر البلدان عرضة إلى زيادة معدّلات الجفاف ونقص كميّات الأمطار بسبب تغيّر المناخ.
ووفقاً لمخرجات اجتماع واشنطن المنعقد في 9 كانون الأوّل/ديسمبر لمتابعة تطوّر المفاوضات الفنّيّة، كان وزراء الخارجيّة والمياه قد اتّفقوا في حضور وزير الخزانة الأميركيّ منوشين ورئيس البنك الدوليّ مالباس، على التوافق حول عناصر محدّدة للخروج باتّفاق قبل 15 كانون الثاني/يناير من خلال التركيز على سياسات التخزين والتشغيل لسدّ النهضة، بما يعكس الإيراد الطبيعيّ للنيل الأزرق، ويأخذ فى الاعتبار ظروف الجفاف التى يتعرّض إليها النهر.
وحاول وزير الريّ والموارد المائيّة السودانيّ ياسر عبّاس إعطاء صورة إيجابيّة عن نتائج اجتماع الخرطوم، إلّا أنّ تصريحاته في مؤتمر صحافيّ عقب الاجتماع كانت متضاربة، حيث قال: "الاجتماع شهد تقارباً في مواقف الدول الثلاث في شأن الملء الأوّل وتشغيل سدّ النهضة"، لكنّه في الوقت نفسه، قال: "لا يزال هناك خلاف في وجهات النظر بين مصر وإثيوبيا في بعض النقاط وتمّ الاتّفاق على إرجائها للدراسة لحين عقد اجتماع أديس أبابا في 9 كانون الثاني/يناير"، مؤكّداً: "لا يمكن الفصل في أنّ هناك توافقاً وحسماً لقضايا محدّدة، حيث أنّ كلّ المسائل الفنّيّة مترابطة ببعضها".
وعن مسار الخلاف الجديد، قال وزير الريّ والموارد المائيّة الأسبق محمّد نصر الدين علام، في حديث إلى "المونيتور": "من الضروريّ التوافق على تعريف لحالات الجفاف في النهر والجفاف الممتدّ، من خلال تحديد نسبة كمّيّات المياه المنصرفة من النيل الأزرق خلال عام واحد أو أعوام عدّة متتالية، أو متوسّطها، والتي تحدّد ما إذا كان النهر يمرّ بحالة جفاف أو فيضان"، لكنّه أكّد: "لا توجد نظريّات علميّة حاكمة يمكن اللجوء إليها لحسم هذه التعريفات بين الدول، حيث إنّ متوسّط تصرّفات المياه يختلف من نهر إلى آخر، وفق الطبيعة الهيدرولوجيّة للنهر وكمّيّات الأمطار الواقعة في حوض النهر".
ويضيف علام: "يمكن الخروج من هذا الخلاف بالاتّفاق على سياسة تشغيليّة أكثر مرونة، لكنّ المشكلة أنّ هناك خلافاً في الأولويّات بين أطراف التفاوض"، موضحاً: "مصر تسعى إلى اتّفاق شامل ومفصّل يحمي حقوقها في ما بعد ملء السدّ، لكنّ إثيوبيا تستهدف الضغط على مصر وإنهاء عمليّة ملء السدّ، من دون الالتزام مع مصر بأيّ سياسات تشغيليّة واستنفاذ الوقت ووضع مصر أمام الأمر الواقع".
ومع أجواء التوتّر في الاجتماعات الفنّيّة ومحاولة حسم الخلافات القائمة قبيل 15 كانون الثاني/يناير، أعلن وزير المياه والريّ والطاقة الإثيوبيّ سيلشى بيكيلي في كلمته خلال الجلسة الافتتاحيّة لاجتماع الخرطوم أنّ بلاده تشرع في ملء بحيرة سدّ النهضة كمرحلة أولى في شهر حزيران/يونيو 2020، معرباً عن أمله في توافق الأطراف المعنيّة كافّة، كما أكد في مؤتمر صحفي نقلته وكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية، لدى عودته إلى بلاده في 24 ديسمبر:" من جهتنا نعتقد أنه لا حاجة للتفاوض حيث أننا بدأنا في ملئ خزان السد".
ورفض المتحدث الرسمي باسم وزارة الموارد المائية والري، محمد السباعي التعليق على تصريحات وزير المياه الإثيوبي قائلاً في حديث هاتفي مع "المونيتور" :"لا يزال هناك فرصة للحوار خلال الاجتماع الفني الرابع ضمن خارطة الطريق المتفق عليها في واشنطن، ونامل الوصول لاتفاق عادل لملئ وتشغيل السد يحقق مصالح الدول الثلاثة".
ومع انتهاء مخرجات الاجتماعات الفنّيّة الثلاثة منذ اتّفاق واشنطن في 6 تشرين الثاني/نوفمبر، من دون حسم أيّ من القضايا الخلافيّة، تتّجه أغلب التوقّعات إلى اللجوء إلى طرف رابع كوسيط في التفاوض بين مصر وإثيوبيا والسودان للفصل في القضايا الخلافيّة محلّ التأويل المتعدّد، وهو ما لفت إليه الرئيس عبد الفتّاح السيسي في تصريحات إعلاميّة في 17 كانون الأوّل/ديسمبر حول الخلافات الفنّيّة في المفاوضات، قائلاً: "ننتظر كانون الثاني/يناير المقبل، إمّا التوصّل إلى اتّفاق أم دخول طرف رابع في المفاوضات".