القاهرة - وجّهت مصر توبيخاً شديد اللهجة إلى الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان في بيان للخارجيّة المصريّة بـ27 شباط/فبراير من عام 2019. وكان رجب طيّب أردوغان وصف نظام الرئيس عبد الفتّاح السيسي بالاستبداد والشموليّة، في 26 شباط /فبراير من عام 2019، معبّراً عن رفضه للقاء السيسي، واصفاً إيّاه بالانقلابيّ، واتّهم القضاء المصريّ بعدم النزاهة.
وتشهد العلاقات بين أنقرة والقاهرة توتّراً منذ أطاح الجيش المصريّ بالرئيس محمّد مرسي المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين بعد احتجاجات واسعة على حكمه خلال عام 2013. وبينما تعتبر القاهرة هذه الجماعة إرهابيّة، تستضيف تركيا الكثير من أعضائها، وتقول إنّها تنظيم سلميّ.
وكانت القاهرة أمرت بطرد السفير التركيّ لديها حسين عوني بوصطالي في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2013، وقرّرت خفض التمثيل الديبلوماسيّ مع تركيا، وهو ما دفع أنقرة للرد بالمثل، إلاّ أنّه رغم القطيعة منذ 6 سنوات لم يتوقّف التراشق والتوتّر بين الجانبين، فخلال مشاركة السيسي في مؤتمر ميونيخ للأمن في 16 شباط/فبراير من عام 2019، تعرّض بالتلميح لـ"إبادة الأرمن"، قائلاً: "مصر استضافت قبل 100 سنة الأرمن، بعد المذابح التي تعرّضوا لها، ووجدوا الأمن والسلام والاستقرار لدينا".
وتعتبر هذه القضيّة شديدة الحساسيّة لدى الأتراك، لكنّ السيسي قرّر التعرّض لها في خضمّ جدل ساخن قائم بين فرنسا وتركيا بسبب وصف "الإبادة".
وتقر تركيا بمقتل كثيرين من الأرمن في عهد الإمبراطورية العثمانية، إلا أنها تشكك في عدد القتلى وترفض إطلاق وصف الإبادة الجماعية، وتثير هذه المسألة حساسية لدى أنقرة.
وعلى مدار السنوات القليلة الماضية، يحاول السيسي استعادة نفوذ بلاده في المنطقة، بعد أن تراجع دورها الإقليميّ.
ورغم أنّ التوتّر المصريّ - التركيّ ليس جديداً، إلاّ أنّه بدأ يدخل مرحلة أكثر عمقاً، وهي التنافس على النفوذ في الإقليم العربيّ.
ودلّلت على ذلك الدعوة الأخيرة، التي وجّهتها "قوّات سوريا الديمقراطيّة"، التي تضمّ مقاتلين أكراداً - الخصم اللدود لتركيا - حيث طالبت في 17 شباط/فبراير من عام 2019 بتدخّل مصريّ كطرف مضادّ لمسألة "المنطقة الآمنة"، التي تريد تركيا إقامتها على الحدود مع سوريا.
وأشار الرئيس المشترك لمجلس سوريا الديمقراطيّة رياض درار خلال تقرير نشره "المرصد السوريّ لحقوق الإنسان" إلى أنّ المجلس يبحث في ترتيبات لزيارة مصر، معتبراً أنّها صمّام الأمان في وجه التهديدات التركيّة. بينما لم تعلق القاهرة على طلب الأكراد.
واستطاعت القاهرة توطيد علاقاتها بقبرص واليونان، وقامت الدول الثلاث بترسيم الحدود البحريّة في ما بينها خلال عام 2013، والتقى السيسي بقادة قبرص واليونان أكثر من سبع مرّات منذ وصوله إلى سدّة الحكم، كان آخرها قمّة ثلاثيّة عُقدت في اليونان جمعت القادة في تشرين الأوّل/أكتوبر من عام 2018، حيث ناقشوا ملف الأمن في البحر الأبيض المتوسّط والاكتشافات البتروليّة. وتطوّرت المناورات العسكريّة بين الدول الثلاث، إلى الحدّ الذي أغضب الجانب التركيّ، الذي أعلن رفضه الاعتراف بقانونيّة الاتفاق الذي وقّعته مصر وقبرص خلال عام 2013.
ويعتقد أن شرق البحر الأبيض المتوسط منطقة غنية بالغاز الطبيعي، وتشكل محاولات استثماره مصدر توتر بين تركيا واليونان وقبرص، التي تربطها معاهدة دفاعية بحكومة الجزء اليوناني من قبرص المعترف بها دوليا.
ونشب توتّر مبطّن بين تركيا ومصر على خلفيّة منع تركيا قبرص من التنقيب عن الغاز في المتوسّط، وهو ما دفع بمصر إلى تحذير تركيا في فبراير 2018 من المساس بحقوقها الاقتصاديّة في المتوسّط.
ورأى عضو لجنة الدفاع والأمن القوميّ في مجلس النوّاب المصريّ وضابط المخابرات السابق تامر الشهاوي أنّ ملف الصراع الدائر على النفوذ في الإقليم بين تركيا ومصر من أبرز الملفّات الشائكة في الوقت الحاليّ، وقال في حديث هاتفيّ مع المونيتور: إنّ القاهرة تمّ استبعادها من قيادة المنطقة منذ اندلاع ثورة 25 كانون الثاني/يناير، وهي تحاول الآن بسط نفوذها من جديد.
ولفت إلى أنّ تركيا حاولت إخراج مصر من المعادلة الإقليميّة، في ظلّ الانتقادات التركية المستمرة لتعامل المجتمع الدولي مع السيسي ، فدائما يطالب الرئيس التركي المجتمع الدولي بعدم العمل مع مصر باعتبار ان السيسي انقلابيا ولا يحمل صفة شرعية لإدارة الدولة، مفسّراً تلميحات السيسي في ميونيخ عن إبادة تركيا للأرمن على أنّها مجرّد رسائل للتذكير بخطورة التمدّد التركيّ.
وتحدّث عن انعقاد القمّة العربيّة - الأوروبيّة الأولى في 24 فبراير شباط 2019 بمدينة شرم الشيخ، والتي طالتها انتقادات تركيّة، فقال: "نعمل على بناء تحالفات إقليميّة ودوليّة لإعادة صياغة النفوذ في المنطقة".
ولفت إلى أنّ المنطقة تشهد صراعاً على النفوذ بين قوى مختلفة، منها تركيا وإيران ومصر، مستبعداً السعوديّة، معلّلاً ذلك بأنّها لا تملك مقوّمات القوّة الشاملة، بينما تمتلكها مصر من الناحيتين السياسيّة والعسكريّة، وهو ما يمكّنها من بسط نفوذها في المنطقة، مشيراً إلى أنّ مصر ترفض التدخّل التركيّ في سوريا، مستبعداً أن تتدخّل القاهرة عسكريّاً حتّى لو طالب الأكراد بذلك، لكنّه لم يستبعد أن تفتح القاهرة أبوابها للأكراد للتعاون السياسيّ بما يخدم الأمن القوميّ المصريّ.
من جهته، رأى عضو لجنة العلاقات الخارجيّة في مجلس النوّاب المصريّ وزير الخارجيّة السابق محمّد العرابي أنّ القاهرة تعتبر الخطر التركيّ أكثر خطورة من الخطر الإيرانيّ، مشيراً في اتصال مع "المونيتور" إلى أنّ تركيا لديها أحلام إمبراطوريّة منذ انتهاء الدولة العثمانيّة، معتبراً أنّ الدولة الوحيدة التي يمكن أن تقف عقبة أمام أحلامها هي مصر من حيث مصر تضم أكبر عدد من المسلميين السنة في المنطقة، كما أنها تمتلك جيشا قويا في المنطقة العربية ، وقال: إنّ أوهام التوسّع التركيّ ليست محلّ قبول في العالم العربيّ، لكنّها تشكّل قلقاً بالغاً لمصر.
وأشار إلى أنّ تواجد قوّات تركيّة في العراق وسوريا، وأخيراً قطر، هو انتشار على حساب الدور المصريّ في المنطقة.
وفي إجابته بشأن أيّ تدخّلات عسكريّة في المنطقة، لفت محمّد العرابي إلى أنّ "مصر لن تزجّ بنفسها في إطار تكتيكيّ، فهي تلعب في إطار استراتيجيّ واسع"، وقال: إنّ التنافس بين بلاده وتركيا بشأن النفوذ في المنطقة العربيّة، جاء بسبب النهم التركيّ في الانتشار.
ودلّل على ذلك ببناء تركيا قاعدة عسكريّة في الصومال الإفريقيّة، التي تعتبر امتداداً للأمن القوميّ المصريّ، معتبراً أنّ التحرّش الكلاميّ التي تمارسه تركيا بحقّ مصر على خلفيّة انعقاد القمة العربيّة - الأوروبيّة، محاولة بائسة لتشويه سمعة القاهرة الدوليّة، بعد فشل الأتراك في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبيّ.
في السياق نفسه، اعتبر الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسيّة والاستراتيجيّة بشير عبد الفتّاح أنّ الانتقادات التركيّة لمصر جاءت في توقيت بالغ الدلالة، بسبب نجاح مصر في عقد منتدى غاز شرق المتوسّط، في 14 يناير 2019 وقدرتها على استضافة القمّة العربيّة - الأوروبيّة الأولى التي ناقشت ملفّات الهجرة ومكافحة الإرهاب،
وقال في حديث هاتفيّ مع "المونيتور": "تمكّن مصر من إنجاح مثل هذه المؤتمرات يُكسبها ثقة المجتمع الدوليّ، بينما على الجانب الآخر تخسر تركيا رهاناتها التوسعيّة".
ودلّل بشير عبد الفتاح على ذلك بقدرة مصر على عقد أكثر من هدنة بين الفصائل السوريّة بتواصل مباشر مع المعارضة والحكومة، بينما لم تستطع تركيا تحقيق أيّ تقدّم في مجابهة الأكراد، وقال:
"هناك تنافس في الأدوار إقليميّاً، وكلّما استطاعت مصر تكوين تحالفات قويّة سيسحب ذلك من رصيد الدور التركيّ".