تشهد الساحة الفلسطينيّة أحداثاً متلاحقة تمثّلت باستقالة الحكومة الفلسطينيّة في 29 كانون الثاني/يناير وبدء المشاورات لتشكيل حكومة جديدة وخروج تسريبات في أواخر كانون الثاني/يناير عن اقتراب إعلان صفقة القرن الأميركيّة، وإعلان السلطة الفلسطينيّة في 10 شباط/فبراير أنّ مؤسّسات دوليّة استجابت لطلب أميركيّ بفرض حصار ماليّ عليها. وتواصل الحكومة الإسرائيلية مشاريعها الاستيطانية بالضفة الغربية، عقب إقرارها في يناير بناء 2500 وحدة استيطانية بمستوطنات الضفة الغربية والقدس، ويواصل الجيش الإسرائيلي في يناير اقتحاماته المتزايدة لمدن الضفة الغربية بحجة ملاحقة المسلحين الفلسطينيين. ووصلت المصالحة بين "فتح" و"حماس" إلى طريق مسدود، بعد سحب السلطة موظّفيها من معبر رفح في 8 كانون الثاني/يناير.
ووسط هذه التطوّرات، كشفت مصادر فلسطينيّة مطّلعة لوكالة "سما" بـ4 شباط/فبراير عن تغييرات كبيرة ستطرأ على قيادة الأجهزة الأمنيّة، بقيام الرئيس الفلسطيني محمود عباس بإجراء هذه التعيينات الوشيكة، التي قد تشمل تعيين زكريّا مصلح الرئيس الحالي لجهاز الاستخبارات، وهو ما زال على رأس عمله حتى الآن، رئيساً لجهاز الأمن الوقائيّ، بدلاً من زياد هبّ الريح، الذي قد يتمّ تعيينه مستشاراً للرئيس الفلسطينيّ محمود عبّاس لشؤون المحافظات. كما قد يتسلّم أمين فوالحة رئاسة جهاز الارتباط العسكريّ خلفاً لجهاد الأعرج، وقد يتمّ تعيين إياد عبّاس رئيساً للماليّة العسكريّة، خلفاً لعمر غيث الذي يعاني أوضاعاً صحيّة صعبة. وقد يتولّى غسّان نمر موقع الناطق باسم الأجهزة الأمنيّة بدل عدنان الضميري. وقد يتسلّم رمضان عوض أو جهاد المسيمي رئاسة جهاز الشرطة، خلفاً لحازم عطا الله المرشّح لأن يكون وزيراً للداخليّة. وتوقّعت المصادر تعيين ماجد فرج رئيس جهاز المخابرات العامّة مستشاراً للرئيس للأمن القوميّ، وتعيين خالد أبو يمن خلفاً له، وإحالة رئيس جهاز القضاء العسكريّ إسماعيل فرّاج على التقاعد لبلوغه الستّين عاماً.
ما زالت قرارات التعيينات الجديدة لم تعلن بعد بصورة رسمية، لكن "المونيتور" تواصل مع عدد من الضباط الأمنيين الفلسطينيين الكبار بالضفة الغربية، أخفوا أسماءهم، وأبلغوه أن "قرارات التعيينات في مرحلة التحضير لدى الرئاسة الفلسطينية وقيادات الأجهزة الأمنية، ويتوقع أن تعلن قريباً بين حين وآخر".
ورسميّاً، كلّف رئيس حكومة تسيير الأعمال رامي الحمد الله، في 6 شباط/فبراير، العميد غسّان نمر ناطقاً باسم وزارة الداخليّة ومنسّقاً للإعلام في الأجهزة الأمنيّة، الذي كان مدرجاً في السابق ضمن قوّات الحرس الرئاسيّ.
لم تنف السلطة الفلسطينيّة هذه الأخبار التي كشفتها وكالة سما أو تؤكّدها، لكنّ مسؤولاً أمنيّاً فلسطينيّاً، أخفى هويّته، أبلغ "المونيتور" أنّ "الأيّام المقبلة تحمل تغييرات داخل المؤسّسة الأمنيّة الفلسطينيّة ستكون في صالح الوضع الفلسطينيّ العام، بغضّ النظر عن الأسماء، والأمر ما زال لدى الجهات المسؤولة في القيادة الفلسطينيّة".
تحمل قرارات التعيينات الجديدة عدة دلالات، أهمها أن توقيتها يأتي بمرحلة حساسة تشهدها القضية الفلسطينية،داخليا باستمرار الانقسام الفلسطيني ، وخارجيا بالقطيعة مع إسرائيل والإدارة الأمريكية.لكن اللافت في التعيينات أن جميع أسماء كبار الضباط الواردة بالتنقلات الجديدة منخرطون بالأجهزة الأمنية منذ سنوات طويلة، وليسوا طارئين عليها، وجميعهم سينتقلون من جهاز لآخر، دون الإتيان بأسماء من خارج هذه الأجهزة.
تتكوّن الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة من 4 أجهزة أساسيّة، هي: قوّات الأمن الوطنيّ، المخابرات العامّة، الاستخبارات العسكريّة، والأمن الداخليّ ويشمل: الشرطة، الأمن الوقائيّ، والدفاع المدنيّ، وتعاني حالة تضخّم واضحة، إذ بلغ عدد عناصرها 66 ألفاً أيّ أنّ عنصر أمن واحداً لكلّ 48 فلسطينيّاً.
توجد لدى السلطة "تخمة" في أعداد كبار الضبّاط: الألوية والعمداء والعقداء، وهم يشكّلون مع رواتبهم أعباء اقتصاديّة على موازنة السلطة الفلسطينيّة التي تعاني أزمة ماليّة، وتشكّل فاتورة الأجهزة سنويّاً 31 في المئة من موازنة الحكومة، بقيمة متوسّطة مليار دولار.
لكنّ هذه العناصر الكثيرة لم توفّر الأمن لفلسطينيّي الضفّة، وفق استطلاع المركز الفلسطينيّ للبحوث السياسيّة والمسحيّة في كانون الأوّل/ديسمبر من عام 2018، الذي أكّد أنّ نسبة الإحساس بالأمن في الضفّة تبلغ فقط 47 في المئة، دون أن يذكر الاستطلاع ما الذي تقوم به العناصر الأمنية الفلسطينية بالضفة الغربية، طالما أن نسبة الشعور بالأمن هناك متدنية لهذا الحد.
وقال اللواء محمّد المصريّ، وهو رئيس المركز الفلسطينيّ للبحوث والدراسات الاستراتيجية في رام الله والمدير السابق لجهاز المخابرات العامّة في غزّة، قبل سيطرة "حماس" عليه في عام 2007، لـ"المونيتور": "إنّ التغييرات الأمنيّة قرار حصريّ للرئيس عبّاس، سواء بتغيير من أراد من كبار الضبّاط، أو إحالتهم على التقاعد، لكنّ موضوع التغييرات الأمنية المرتقبة مرتبط بالتطوّرات السياسيّة والعلاقة مع إسرائيل التي تكرّر اجتياح جيشها للضفّة الغربيّة، الأمر الذي أحرج الأجهزة الأمنيّة الفلسطينية أمام الرأي العام الفلسطيني، وأظهرها غير قادرة على منع هذه الاجتياحات الإسرائيلية، ووقّف الدعم الأميركيّ للأجهزة منذ بداية شباط/فبراير".
وفي ظلّ الحياة السياسيّة الفلسطينيّة الجامدة، التي لم يحدث فيها تغيير، سواء ببقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس في منصب الرئاسة منذ 2005، واستمرار عمل المجلس التشريعي الفلسطيني منذ 2006، دون إجراء انتخابات جديدة لا رئاسية ولا تشريعية، رغم انتهاء صلاحيات الرئيس والمجلس التشريعي، يصبح إجراء تغييرات أمنيّة أمراً لافتاً، مع أنّه الأمر الطبيعيّ، لأنّ الاستثناء أن يبقوا في مواقعهم سنوات طويلة، فهناك من تجاوز الستّين عاماً. كما أنّ هناك آخرين يعانون ظروفاً صحيّة، ممّن تطلّب إحالتهم على التقاعد وإفساح المجال لضبّاط آخرين.
وقد دأب محمود عبّاس على إجراء تغييرات في قيادات الأجهزة الأمنيّة بين كلّ عدّة أعوام، وكان ذلك حصل في عام 2009، وتكرّر في عام 2014، وكذلك في عام 2016.
لا يخرج إجراء التغييرات الوشيكة في الأجهزة الأمنية الفلسطينية عن التزام السلطة الفلسطينيّة بعملية السلام، بما يتضمن التنسيق الأمني مع إسرائيل، وتشمل ملاحقة "حماس"، الأمر الذي يعني أنّ أيّ تغييرات تحظى برضى إسرائيل والولايات المتّحدة الأميركيّة. ولذلك، أصدرت وزارة الخارجيّة الأميركيّة في 20 أيلول/سبتمبر من عام 2018، تقريراً أشادت فيه بأداء الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة وبمحاربتها حركة "حماس" في الضفّة الغربيّة.
وقال أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة "النجاح" الوطنيّة بنابلس-شمال الضفّة الغربيّة رائد نعيرات لـ"المونيتور": "إنّ التغييرات المرتقبة تتعلّق بكبار الضبّاط من قادة الأجهزة، وليس بالسياسات العامّة الفلسطينيّة، فالقضايا الكبرى كالعلاقة مع إسرائيل والموقف من صفقة القرن والمصالحة مع حماس من اختصاص اللجنة المركزيّة لـ"فتح"، وقادة الأجهزة ليسوا أعضاء فيها، والتغييرات تعيد تموضع كبار الضبّاط، وهي روتينيّة، وليست سياسيّة".
من جهته، أكّد محرّر الشؤون الفلسطينيّة في القناة "12" الإسرائيليّة، الذي يتمتّع بعلاقات وثيقة بالسلطة الفلسطينيّة إيهود يعاري، في 5 شباط/فبراير، أنّ عبّاس سيعلن عن التعيينات الأمنيّة الجديدة بما يتناسب مع ترتيبات خلافته، لا سيّما بالنّسبة إلى اللواء ماجد فرج رئيس جهاز المخابرات العامّة واللواء حازم عطا الله قائد قوّات الأمن الوطنيّ الموصوفين بكاتمي أسراره، ومن أبرز الموالين له.
وقال عميد البحث العلميّ في كلية الرباط بوزارة الداخليّة في غزّة التّابعة لـ"حماس" إبراهيم حبيب في حديث لـ"المونيتور": "إنّ التغييرات الأمنيّة الفلسطينيّة تأتي على مقاس الرئيس عبّاس وتخدمه في هذه الفترة الحرجة من نهاية عهده. وفي ظلّ المعرفة الأميركيّة والإسرائيليّة بالهيكليّة الأمنيّة الفلسطينيّة، فإنّ تغيير أيّ ضابط فلسطينيّ رفيع لا بدّ أن تسبقه موافقتهما. وطالما أنّ العقيدة الأمنيّة لأجهزة السلطة تحارب حماس، فإنّها تحظى برضى واشنطن وتلّ أبيب عنها، رغم التوتّر السياسيّ مع السلطة الفلسطينيّة".
وتأتي هذه التغييرات، في ظلّ منافسة بين الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة على التقرّب من عبّاس. ولذلك، سعى منذ تولّيه الرئاسة في عام 2005 إلى عدم تركيز القوّة بيدّ عدد محدود من الضبّاط، بل وزّع الأدوار على عدد أكبر ممّن يدينون له بالولاء لبقاء سيطرته على كلّ الأمور، الأمر الذي أوجد حالة من التوتّر بينهم.