معرض في اسطنبول يسلّط الضوء على التصوير الفوتوغرافي العثماني

بدأت القصّة في ألمانيا العام الماضي، عندما عرضت دار المزاد "ريس أند سوهن" نحو مئتَي غرض تذكاري مأخوذ من منزل أوتو فون بسمارك للبيع في المزاد العلني. وكانت بين المعروضات ألبومات صور فوتوغرافية قدّمها إلى المستشار الألماني "معجبون ومناصرون له من مختلف أنحاء العالم"، بما في ذلك من الأراضي العثمانية. وقد اشترى قطب الأعمال التركي عمر كوتش ثلاثة مجلدات مخملية حمراء مؤلّفة من أوراق مطويّة، نُقِشت عليها طغراء السلطان عبد الحميد، أي ختمه، لضمّها إلى مجموعته الخاصة الواسعة.

تشكّل الألبومات الثلاثة محور معرض "أركاديا العثمانية: البعثة الحميدية إلى أرض الجذور القبلية (1886)" الذي يُقام في المركز البحثي لحضارات الأناضول في جامعة كوتش في اسطنبول. تُعرَض الألبومات في صندوق زجاجي وكأنها مجوهرات من التاج الملكي، في حين نُزِعت منها الأوراق المطوية التي لم تكن ملتصقة بها، من أجل عرضها. يتضمن المعرض نحو 150 بورتريهاً ومنظراً طبيعياً باللون البني الداكن موضوعة في أطر كرتونيّة ومحفوظة بطريقة جيدة جداً، مع ملاحظات مكتوبة بخط اليد باللغتَين الفرنسية والعثمانية.

وقد شرح أحمد إرسوي، أحد القيّمين على المعرض، لموقع المونيتور: "قُدِّمَت الألبومات هديةً إلى بسمارك بعد أن أرسل السلطان العثماني بعثة لمسح أراضي السلالة الحاكمة وتوثيقها، بحثاً عن الشرعيّة من خلال الأساطير التأسيسية".

تتضمّن المناظر الطبيعية مشاهد من مرمرة ووسط الأناضول: سوغوت، عاصمة الامبراطورية العثمانية عند تأسيسها، وبيله جيك؛ اسكي شهير ويني شهير؛ وإزنيق وبورصة، العاصمة الكبرى الأولى للامبراطورية. وهي جميعها أراضٍ استولى عليها "أسياد الأفق العثمانيون"، وهو أحد ألقاب السلاطنة، الواحدة تلو الأخرى. في الألبومات، تُصوَّر هذه الأماكن وكأنها وحدات، منسَّقة في إطار تسلسل سردي عن توسّع الأراضي وتثبيت الركائز السياسية بدءاً من ضريح أرطغرل، والد عثمان الذي حملت الامبراطورية اسمه، وصولاً إلى عواصم الامبراطورية المتعاقبة.

لا يجوز أن يُفاجئنا ذلك. يقول إرسوي، وهو أستاذ في مادة التاريخ المعماري في جامعة البوسفور، إن عبد الحميد ذا القبضة الحديديّة كان "من الحكّام الأكثر حنكة في التعاطي الإعلامي في زمانه". فقد أصدر عبد الحميد أوامره بإنشاء مستودع متعدد الطبقات في قصر يلدز لحفظ الصور – أكثر من 36,000 صورة فوتوغرافية – فضلاً عن مواد مختلفة بدءاً بالصّحف الورقيّة وصولاً إلى البيانات الإحصائيّة. فهو أدرك مبكراً أنه يمكن استخدام الإعلام المرئي بمثابة أداة سياسية، لأغراض داخلية ودولية على السواء.

كانت الهدية الفريدة التي أُرسِلت إلى بسمارك جزءاً من علاقات الودّ التي بدأت تتطوّر في مرحلة التقارب بين الامبراطوريتَين العثمانية والألمانية. واندرجت أيضاً في إطار اقتراح للتعاون في مجال الأعمال. فالعثمانيون كانوا يحاولون الحصول على التمويل لبناء سكك حديد جديدة في منطقة مرمرة. وقد سلّطت الألبومات، من خلال مجموعة مختارة من الصور الفوتوغرافية، الضوء على معالم المنطقة، فكانت بمثابة منشور بصري دعائي موجَّه إلى مستثمر محتمل.

ركّزت البعثة إلى بلدة سوغوت، جنوب اسطنبول، على التراث المعماري. على سبيل المثال، تمت المبادرة على الفور إلى ترميم النصب والمباني الرسمية التي ظهرت بحالة سيئة في الصور الفوتوغرافية، أو حتى أُعيد بناؤها، وفق ما تُظهره الصور في المعرض.

بعد عرض لمحة عن فرق البعثة وأهدافها، يتبع المعرض عن كثب الأسلوب الذي نُسِّقت به الألبومات: مناظر طبيعية ومشاهد من المدن، نصب تاريخية، حياة يومية واجتماعية. وإنّ تصميم المعرض وتنسيقه يأسران الناظر. فالصور والشروحات متوازنة تماماً، وتنساب بسلاسة. وتُكمِّلها بعض مقاطع الفيديو والصور المتحرّكة. تسلّط إحدى الوحدات المتعددة الوسائط الضوء على أرشيف عبد الحميد، الذي كان يضم حتى استديو صغيراً للتصوير الفوتوغرافي.

نصل بعدها إلى الجناح التالي من المعرض الذي يُعرِّف الزوّار بتفصيل أكبر إلى البعثات ويعرض مواد مأخوذة منها. ففريق البعثة المؤلّف من عشرة ضباط عسكريين لم ينتج فقط عددًا كبيرًا من الصور الفوتوغرافية، إنما أيضاً تقارير خطّية وخرائط وبضع رسوم زيتية. جُمِع 12 ألبوماً فوتوغرافياً على الأقل، وقد جرى الاحتفاظ بتسعة منها لبعض الوقت في قصر يلدز. وتُحفظ حالياً الألبومات المتبقّية في جامعة اسطنبول.

أمّا الجانب الأبرز في المعرض فهو الجناح الكبير المخصّص لما يُسمّيه البروفسور إرسوي "السجل البصري الشامل الأول عن الحياة القبلية والبدوية في الأناضول في القرن التاسع عشر". يتألّف هذا الجناح من صور لتركمان شبه بدو أو "يوروك"، وهم مجموعات قبلية من سكّان المنطقة الأصليين كانوا حاضرين عند ولادة الامبراطورية، وقد استقرّوا مؤخّراً في مستوطناتهم. تُوثِّق الصور حياتهم في محيطهم، وفي المراعي والهضاب، وتُظهرهم باللباس التقليدي الكامل.

تُظهر هذه الصور الإثنوغرافية الـ"يوروك" بمثابة أشخاص بدائيين من مخلّفات ماضٍ ثابت في الزمن. وهي تحاول الإمساك بالجوهر التركي للهوية العثمانية من خلال رؤية قومية أوّلية لم تخضع بعد للتقييم الكامل في علم التأريخ المعاصر. كان الاهتمام بهذه الهوية واضحاً في المعرض، فقد توجّه بعض القوميين، بحسب توصيفهم لأنفسهم، مباشرةً إلى جناح "الجذور القبلية" لتمجيد أجدادهم. وكتب آخرون تعليقات شديدة الحماسة في سجل الزوّار يُشيدون فيها بعبد الحميد واصفين إياه بالبطل السياسي الخالد والشخصية الرائدة.

يخلو معرض "أركاديا العثمانية" من المضمون التبجيلي والغايات الدعائية، لكنه يُقدّم إثباتاً على القوّة المدهشة التي تتمتّع بها الصور الفوتوغرافية في رسم التصوّرات وتشكيل الأفكار حتى بعد انقضاء أكثر من قرن على التقاطها.

يستمرّ المعرض حتى 30 أيلول/سبتمبر.