في الأيّام التي كانت تركيا لا تزال تأمل فيها بالانضمام إلى الاتّحاد الأوروبي، كان يصبح شعبها مستعدًّا للاستفسار عن أصله العرقي والديني. لكن منذ ذلك الحين، عادت البلاد إلى وقت يُذَلّ فيه الناس ويُحَطّ من قدرهم، بمباركة من الحكومة، كالأرمن المتخفّين.
كان هرانت دينك رئيسَ تحرير صحيفة أغوس الناطقة بالأرمنيّة في العام 2004 عندما كتب أنّ صبيحة كوكجن، أوّل امرأة تقود طائرة عسكريّة في الجمهوريّة التركيّة، تنحدر من أصول أرمنيّة. وبسبب كتابته لهذا المقال وغيره، وجد نفسه قيد التحقيق من قبل وزارة العدل، وجرى اغتياله في العام 2007 لأسباب يُعتقَد أنّها متعلّقة بدعمه القويّ لقضايا الأرمن.
توضح قصّة دينك سبب إبقاء سجلّات السكان في تركيا سرّيّة حتّى وقت ليس ببعيد. فلطالما كان الموضوع حساسًا بالنسبة إلى الدّولة، وكانت سرية البيانات التي تكشف عن نسب الشعب تُعتبَر مسألة أمن قومي.
نجد سببين رئيسيّين وراء كلّ هذه السّريّة، الأوّل هو إخفاء حقيقة أنّ أعدادًا كبيرة من الأرمن، والسريان، واليونانيّين واليهود تحوّلوا إلى الإسلام، والثاني تجنّب أيّ نقاش بشأن "الهوية التركيّة". وإنّ تعريف هذه الأخيرة كـ"كلّ من يرتبط بالدولة التركية برباط الجنسيّة" مكرّس في الدستور كجزء من فلسفة مصطفى كمال أتاتورك، الأب المؤسّس للجمهوريّة التركيّة وأوّل رئيس لها.
لفترة طويلة، كانت تنصّ السّياسة الرسميّة على أنّ الأتراك يشكّلون هويّة عرقيّة متماسكة في تركيا؛ لكن قبل أقلّ من أسبوعين، في 8 شباط/فبراير، فُتِحت سجلّات السكّان رسميًا أمام الرأي العام عبر قاعدة بيانات الجنيولوجيا على الانترنت. إلا أنّ النظام انهار سريعًا نظرًا للإقبال الكبير عليه. وإنّ بعض الأشخاص الذين لطالما تفاخروا بنسبهم التركي "النقي" شعروا بالصّدمة عندما اكتشفوا أنّهم يتمتّعون في الواقع بجذور عرقيّة ودينيّة أخرى.
أمّا الجانب السلبي في المسألة فهو ما شهدته مواقع التواصل الاجتماعي حيث انتشرت بعض التعليقات على غرار "سينفضح الآن أمر الأرمن المتخفّين، واليونانيّين واليهود في البلاد" و"سيعرف الخونة أخيرًا أصلهم".
لطالما كانت الجنيولوجيا موضوع نقاش شائع في المجتمع التركي، وكذلك أداة للانقسام الاجتماعي والسّياسي في الوقت عينه. غالبًا ما تقرّ الأسر سرًا أنّها تنحدر من أصل أرمني أو أنّ أحد أقربائها الذين ماتوا منذ زمن بعيد تحوّل إلى الإسلام، لكنّ هذه المحادثات كانت تبقى سريّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ المتحوّلين في تركيا تلاحقهم وصمة عار لا يمكن محوها.
قال للمونيتور الصّحفي هايكو باغدات الذي ينحدر من أصل أرمني، "في مذبحة العام 1915، فضلاً عن عمليّات تحويل الدين الجماعيّة، انتهى المطاف بآلاف الأطفال في المنفى. فالذين نجحوا في الوصول إلى الإرساليات الأجنبيّة نُقِلوا إلى الخارج، وألقت العصابات المتجوّلة القبض على البعض أثناء هربهم وحوّلتهم إلى عبيد جنس وأجراء. لكن المجتمع ليس مستعدًا بعد للتّعامل مع هذا الواقع. تخيّلوا أنّ رجلاً كان رئيس الشؤون الدّينيّة في البلد [لطفي دوغان] هو الأخ غير الشّقيق للبطريرك الأرمني [سينوزك كالوستيان]".
وأكمل بقوله إنّ "كالوستيان، الذي عاد إلى تركيا من بيروت في العام 1961، كانوا يتذكّرونه كقدّيس في البطريركيّة الأرمنيّة في تركيا وكشخص خدم في أصعب الفترات بعد العام 1915. في خلال المذبحة، قامت والدته بإرسال الأطفال بعيدًا وتحوّلت إلى الإسلام، وتزوّجت لاحقًا من [رجل يدعى] دوغان له مكانة اجتماعيّة مرموقة، ورزقت بفتاتين وصبيّ، وكان هذا الصبي هو لطفي دوغان. وعندما توفّيت الوالدة التي كانت تنتمي آنذاك إلى فرع حزب الحركة القوميّة في محافظة ملاطية، قدم خاله باللّباس الكهنوتي من بيروت لحضور الجنازة، ولم يكن بإمكان أحد أن يقول شيئًا".
أصبحت طريقة تفكير المجتمع واضحة إلى حدّ كبير عندما تشكّى أردوغان في إحدى المرّات بقوله، "يتّهموننا بأنّنا يهود، وأرمن ويونانيّون".
تخوّف البعض من أنّ البيانات المستشفّة من سجلّات السّكان قد يجري استعمالها لوصم الأسماء المعروفة ولحملات "الإعدام السياسي". وبعد تعطّل قاعدة البيانات، نهضوا للمطالبة بعدم إصلاحها، وأحدهم كان تيفون أتاي، الصّحفي في صحيفة جمهوريت التركيّة.
فكتب في 12 شباط/فبراير، "تلقّيت نصيحة وديّة بعدم الإفصاح عن أصلي الجورجي. كان ذلك أبسط أنواع الضّغط. ماذا عن الذين يوشكون أن يطّلعوا على أصولهم الأرمنيّة أو أن يعرفوا أنّهم ممّن حوّلوا دينهم؟ فكّروا بالأمر: تكون مؤمنًا بأنّك تركي أشوس ليتبيّن أنك أرمني خالص النسب. تخيّل ما سيترتّب على ذلك من عواقب مجتمعيّة".
وفي خضمّ احتدام النقاش، عاد النظام فجأة إلى العمل مجدّدًا في 14 شباط/فبراير.
ويتعجّب عدد كبير من الأتراك من توقيت إخراج هذه المعلومات إلى العلن.
صرّح الصّحفي سردار كوروجو للمونيتور بأنّهم "لو فعلوا ذلك قبل بضع سنوات عندما كنا [نصبح أكثر تسامحًا]، لما كانت نظريّات المؤامرة قويّة بقدر ما هي عليه اليوم عندما تتصرّف الدّولة وكأنّنا في صراع من أجل البقاء. لكن هذه هي الطّريقة لتعيد تركيا إحياء روح حرب الاستقلال" للحث على حبّ الوطن والفكر المؤيّد للحكومة.
يخشى المعارضون للنظام من أن يؤدّي ذلك إلى مفاقمة وضع المجتمع الذي يتخبّط بالفعل في مستنقع من العنصريّة؛ ويقول آخرون إنّ الواقع قد يكون صادمًا، لكن أليس بإمكانه أن يعود بالنفع لجهة القضاء على العنصريّة؟
ردّ كوروجو، "بلى بالتّأكيد. الكلّ في تركيا يشعر بالفضول حول أصله. وهذا أمر واقع. لماذا تصعب لهذه الدّرجة مواجهة الحقيقة؟" وقال في تعليق على قصّة صبيحة كوكجن، "قلب ذلك البلد رأسًا على عقب".
يرى كوروجو أنّ سريّة البيانات ضروريّة للحؤول دون إساءة استعمال سجلّات السّكان كأداة للتشهير السّياسي، لكنّه حذّر من أنّ "أجهزة الدّولة تعلم بالفعل كلّ شيء عنّا".
الجدير بالذكر أنّ صحيفة أغوس أفادت في العام 2013 بأنّ الحكومة تضع في السّرّ رموزًا للأقليّات في سجلّات السكان، فيعطى اليونانيّون الرقم 1، والأرمن الرقم 2 واليهود الرقم 3؛ وقد لقي هذا التصنيف السري للأقليّات الدّينيّة غضبًا واسعًا.
وسأل كوروجو، "الأسوأ هو أنّ هذه الحقائق تظهر عندما يحين وقت تقدّم الشاب للتجنيد الإجباري. باختصار، هناك من لديهم معلومات عنا أكثر منا. فلم لا يطلعوننا عليها؟"
لحظ الصّحفي باغدات أنّ "سجلّات السّكّان خطرة. ولهذا السّبب قُتِل هرانت دينك. أطلع مدير متحف الإبادة الجماعيّة في يريفان وفدًا تركيًّا على المواضيع الثلاثة الأكثر تداولاً بين الذين نجحوا في الهروب. يخبرنا الأرمن أوّلاً عن المسلمين الذين ساعدوهم على الفرار من الإبادة، ثمّ عن الأرمن الذين خانوهم، لينتقلوا بعدها إلى رواية مأساتهم. وإذا عمّمنا أسماء الأرمن الذين أجبروا على التحوّل إلى الإسلام، سنعرّض أحفادهم للخطر اليوم".
وأضاف بقوله، "هذا هو الوضع بعد 100 عام: طلبت منا الدّولة التركيّة أن نتقبّل أنّنا أتراك. حسنًا، دعني أقول إنّني تركي. هل أستطيع شغل وظيفة عامة؟ كلا. وعندما أقول، 'كلا، أنا أرمني'، أعامل كإرهابي. لم يتغيّر شيء. إنّ فتح سجلات السّكان لا يعني شيئًا بالنّسبة إليّ. كيف يمكننا أن ننسى يوسف هالاكوغلو، رئيس 'مؤسّسة التاريخ التركي'، الذي وجّه في العام 2007 تهديدًا صريحًا بقوله، 'لا تثيروا غضبي. فلديّ قائمة بأسماء أشخاص تحوّلوا إلى الإسلام أستطيع كشفها، مع ذكر عناوين سكنهم حتى'. وهذه الكلمات الصّادرة عن هذا الرّجل الذي أصبح في ما بعد سياسيًا في حزب الحركة القوميّة، شكّلت تهديدًا على السّياسة التركيّة".
هل المعلومات كاملة في السجلات المتاحة للرّأي العام حاليًا؟
أعرب صحفي آخر من أصل أرمني، هو يرفانت أوزوزون، عن شكوكه. "لسنا متأكّدين من أنّ الوضع تغيّر. نعلم أنّ الأقليّات العرقيّة لها رموز مختلفة في السجلّ. ونحن الأرمن أعطينا الرقم 2 رمزًا لنا. هل تغيّر ذلك؟ لا أعتقد".
ونجد أنّ المسؤولين السّياسيّين لا يؤكّدون الأمر ولا ينفونه.