في الآونة الأخيرة، أثار مؤتمر الحوار الوطني السوري في روسيا ردود فعل شديدة ومتنوّعة. يشيد المعجبون بالسياسة الخارجية الروسيّة باعتبار المؤتمر انتصارًا لموسكو ودليلًا آخر على قدرة البلاد على التغلب على المشاكل المستعصية التي لا قدرة للدول الأخرى على إيجاد حلّ لها. أمّا منتقدو هذا المؤتمر فيعتبرونه انتكاسة كبيرة، مسلطين الضوء على حدود النفوذ الروسي في الشرق الأوسط. لكنّ كلا الطرفين على خطأ.
فلا يمكن اعتبار المؤتمر انتصارًا إذ أنّه قدّم حلولًا للقضايا التي تمّ تحديدها فقط، كما لا يمكن اعتباره هزيمة بل دليلًا على محدودية فعالية المبادرات الهادفة إلى إنهاء الحرب الأهلية السورية التي دخلت سنتها السابعة.
كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أعلن عن فكرة مؤتمر سوتشي في تشرين الأوّل / أكتوبر 2017 ، وذلك في خطاب وجّهه في منتدى فالداي السنوي. في حينها، لم تكن طبيعة "الحدث المقرر في سوتشي" واضحة بعد.
لم توضّح المعلومات التي نشرتها وسائل الإعلام أو حتى التي تناولها خبراء في الكرملين هذا الموضوع. تمّ الإعلان عن تواريخ وأماكن مختلفة، كما تمّ الإعلان عن أسماء المشاركين ليتم سحبها في وقت لاحق وتغيير مكان الحدث. رجّح البعض أن يكون بوتين بحاجة إلى المؤتمر قبل الانتخابات الرئاسية عام 2018، بينما اعتبر البعض الآخر أنّ موسكو تعتزم الإعلان عن التوصّل إلى تسوية وإنهاء الأزمة بشكل سلميّ. وخشي الكثيرون من أن تؤدي عملية التفاوض في سوتشي إلى الانتقاص من الإطار الذي وضعه مؤتمر جينيف.
وممّا لا شكّ فيه أنّ الكريملين اهتمّ بتنظيم التغطية الإعلاميّة للمؤتمر الذي عقد في 29 و30 كانون الثاني / يناير الماضي في سوتشي، لكنّه لم يُعتبر عنصرًا هامًا في حملة بوتين الرئاسيّة. في الواقع، لم يعلن المحدّث باسم الكريملين ديميتري بيسكوف في بيان له قبيل المؤتمر عن توقّعات عالية السقف لروسيا من هذا المؤتمر. كما أنّ مؤتمر سوتشي لم يشكّل أبدًا بديلًا عن عمليّة السلام التي يتمّ طبخها في جنيف. على العكس، أصبح الإلتزام بالمفاوضات التي تدعمها الأمم المتّحدة وقرار مجلس الأمن رقم 2254 الذي وضع جدولًا زمنيا وهيكلية لعملية السلام في سوريا جزءًا رئيسيًا من الخطاب الرسمي للمؤتمر. ويبدو أنّ المنظمين حاولوا التعبير عن رغبات المجتمتع السوري والجهات الفاعلة الدولية للتوصّل إلى اتفاق.
إن الجادين في عملية بناء السلام بحاجة ماسة إلى تفعيل مؤتمر جنيف. وينعكس ذلك على سبيل المثال في مناطق خفض التصعيد التي تمّ تحديدها خلال محادثات السلام في العصمة الكازاخستانية أستانا. شكّلت مناطق خفض التصعيد أداة فعالة نسبيَا للحد من أعمال العنف على الأرض في بادئ الأمر. غير أنّها فشلت في تحقيق الهدف المتمثّل في إعادة إحياء محادثات جنيف وبات من الواضح أنها بدأت تخسر من فعاليتها في ضوء الاقتتال العنيف في الغوطة الشرقية وإدلب وعفرين. كما أنّ الخلافات بين الدول الضامنة (أي إيران وتركيا وروسيا) وبعض الجهات التي تسعى للانتقام تجعل من وقف إطلاق النار أمرًا صعبًا ومستبعدًا. في الوقت نفسه، قد تحوّل المؤسسات الناتجة عن الحكم الذاتي والمستقلّة من دمشق مناطق خفض التصعيد إلى دويلات شبه مستقلة على غرار النموذج الكردي.
ويبدو أنّ عدم فعالية المحادثات في جنيف حتى الآن مرتبطة بنظرة كلّ من الأطراف بالنسبة للوضع في سوريا. فالحكومة السورية التي برزت كلاعب قويّ على الأرض لا تعتبر أنّه من الضروري التوصّل إلى أرضية مشتركة مع المعارضة : الوقت إلى جانب دمشق.
في الوقت عينه، لن تكون المعارضة أكثر استعدادًا للدخول في حوار مع النظام. ويقف زعماء المعارضة على مفترق طرق غير قادرين على كسب الحرب ضدّ النظام. في حين قد يقبل البعض بحل وسطي ومحدود لا تزال دمشق بحاجة إليه لتلميع صورتها على الساحة الدولية، يعتبر آخرون هذا الأمر مرفوضًا بشكل قاطع. بالتالي، سيتعيّن عليهم تبني مواقف أكثر صرامة وانتظار المرحلة الثانية من الصراع بعد اختيارهم الانسحاب من اللعبة لبعض الوقت. فالفشل في إصلاح النظام السياسي في البلاد لا يساعد على فكّ النزاع. أخيرًا، ثمّة من يستفيد من استمرار عمليّة السلام أكثر من وصولها إلى خواتيم سعيدة. فنظرًا للأوضاع الراهنة، تسعى هذه الأطراف إلى تمييع هذا الموضوع غلى أقصى حدّ ممكن.
بالتالي، فإنّ المجتمع السوري والوسطاء الدوليين (روسيا أولًا وأخيرًا) هم الوحيدون الذين يدفعون فعلًا للإسراع في إنهاء النزاع. من خلال عقد المؤتمر، سعت موسكو بطبيعة الحال إلى إعادة تأكيد دورها كوسيط لا غنى عن إبداعه ومرونته في الأوقات العصيبة. في الوقت نفسه، ضمنت مشاركة تركيا وإيران نزاهة المنظمين وسمحت بتعزيز التحالف الثلاثي الهش.
كان قد وصل نحو 1500 سوريّ إلى سوتشي في 29 كانون الثاني / يناير يمثّلون المجتمع المدني للجماعات العرقية والدينية والقبلية السورية، ومختلف القوى السياسية بالإضافة إلى المعارضة الداخلية والخارجية بما في ذلك المعارضة المسلحة.
غير أنّ بعض المجموعات كحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي لم تحضر بسبب الموقف التركي الذي لم يتزحزح، كما لم يتمثّل النظام في المؤتمر إذ يعتبر الرئيس بشار الأسد أنّ الشرعية التي تتمتّع بها حكومته تمنعها من الحضور.
وعلى الرغم من حضور بعض أعضاء لجنة المفاوضات العليا المؤتمر، امتنع غالبية اللجنة عن الحضور بعد تصويت 24 عضوًا من أصل 34 ضدّه. قبل فترة وجيزة من الجلسة الرئيسيّة، خرج بعض ممثلي المعارضة من الصالة. يقال أنّهم وُعدوا بإزالة أعلام النظام وشعاراته من المكان لكنّ ذلك لم يحصل. بعد مغادرة الوفد، وافقت تركيا على تمثيل مصالحه.
ويبدو أنّ قرار عدم المشاركة غير سليم خاصة وأن المبعوث الخاص للأمم المتّحدة إلى صوريا ستيفان دي ميستورا قد حضر المؤتمر، الأمر الذي أكسب الحدث شرعية دوليّة. وبات أعضاء المعارضة الذين رفضوا الدعوة عرضة لاتهامات تشكك في استعدادهم على التوصّل إلى تسوية سلمية.
وأدى غياب بعض القوى السورية البارزة إلى حرمان المؤتمر من رغبته في تحقيق حلّ شامل لكنّه لم ينجح في الانتقاص من أهميّته. فالمؤتمر لم يهدف إلى إجراء مفاوضات سياسية، بل شكلّ فرصة لمختلف قوى المجتمع المدني في الجلوس على الطاولة والتوصل إلى موقف موحد يعطي زخمًا جديدًا لعملية السلام. بالإضافة إلى ذلك، قال بعض المشاركين للمونيتور أن جزءًا كبيرًا من الذين اعتزموا الحضور تعرّض لتهديدات وضغوط للعدول عن المشاركة.
كان المنظمون يتطلّعون أن يتناول جدول الأعمال عددًا من البنود بما في ذلك صياغة دستور جديد وتمهيد الطريق لإجراء انتخابات عامة تحت إشراف الأمم المتّحدة ومعالجة القضايا الإنسانيّة بالإضافة إلى وضع برنامج شامل لإعادة الإعمار في سوريا. غير أنّ النقاش دار بشكل أساسيّ حول صياغة دستور جديد.
كان مقررًا قبل انطلاق المؤتمر أنّ يخلص ببيانين. البيان الأول عبارة عن وثيقة تمّ إعدادها استنادًا إلى تقرير رئيس معهد الدراسات الشرقية في الأكاديميّة الروسيّة للعلوم فيتالي نومكين الذي يتضمّن عددًا من المبادئ الأساسيّة المقترحة للتسوية بين السوريين. أما البيان الثاني فتضمّن نداءً إلى المجتمع الدولي بشأن الحاجة الملحة إلى حلّ الأزمة الإنسانيّة والتوصّل إلى تسوية تنهي الصراع والمباشرة في إعادة إعمار سوريا. بالإضافة إلى ذلك، تمّ الإعلان عن خطط بإنشاء مجموعات عمل خاصة ولجنة دستورية من شأنها المساعدة على تعزيز عملية السلام في جنيف.
كان قد تمّت صياغة البيانين والمقترحات المتعلقة باللجنة في وقت سابق. مع ذلك، أثار المبدأ الأساسي للجنة خلافات حادة بين المشاركين. ونتيجة لذلك، تضمنّت التسوية التي تمّ التوصّل إليها بحلول منتصف الليل قائمة من 150 مرشحًا (100 من الحكومة و50 من المعارضة) للمشاركة في اللجنة الدستورية، في حين تمّ تفويض دي ميستورا بتعديل اللائحة وفقًا لتقديره بهدف الوصول إلى تسوية.
لا يمكن أن يعتبر الاتفاق النهائي انفراجًا في الأفق لكنّه النتيجة الأبرز لجهود التسوية خلال العام الماضي. بيد أنّ المشكلة هي أنّه على الرغم من أنّ الاتفاق لقي دعمًا أكثر من سابقاته، من غير الواضح أبدًا كيف يؤسس لتفعيل المفاوضات في جنيف في ظلّ استمرار النزاع على المصالح الحقيقية لمختلف الأطراف.