لقد أُلغيت التظاهرة الاحتجاجيّة التي دعت اليها مجموعات مصريّة معارضة وأعضاء من أحزاب سياسية ليبرالية خارج مقر جامعة الدول العربية في وسط القاهرة يوم 9 كانون الأول\ديسمبر الحالي، وذلك بعد رفض وزارة الداخلية إصدار التصاريح اللازمة. وكان من المقرّر أن تجري التظاهرة، التي كان الغرض منها شجب قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخير بالاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل، بالتزامن مع اجتماع طارىء لوزراء الخارجية العرب للرد بشكل موحّد على خطوة ترامب. وبعيد ذلك، أصدر وزراء الخارجية بيانًا دعوا فيه الولايات المتحدة إلى العودة عن قرارها والذي وجدوا بأنه "يمثّل استفزازًا لمشاعر المسلمين والمسيحيين في المنطقة" و"انتهاك خطير للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الدولي".
وقبل ذلك بيوم واحد، اجتمع المئات من المصريين للتظاهر في الجامع الأزهر في القاهرة بعد صلاة يوم الجمعة، وردّدوا شعارات مناهضة لإسرائيل والولايات المتحدة، كما رفعوا شعارات تؤكّد على الهوية العربية والإسلامية للقدس. إضافة إلى ذلك، احتشد العشرات من المصلين في مسجد القائد ابراهيم في الاسكندرية عقب انتهاء صلاة يوم الجمعة احتجاجًا، هاتفين "القدس عاصمة فلسطين الأبدية"، كما أحرقوا العلم الاسرائيلي. وقد جرت الاحتجاجات في ظلّ تواجد أمني مكثّف لعناصر الشرطة، كما جاءت في أعقاب تظاهرة سابقة خارج مقرّ نقابة الصحفيين في وسط القاهرة في 7 كانون الأول\ديسمبر الحالي، أحرق خلالها عشرات المعتصمين الأعلام الاسرائيليّة. وبعد مرور ثلاثة أيام، أفرجت القوات الأمنية عن عشر أشخاص كانت قد اعتقلتهم خلال التظاهرة بكفالة مالية، غير أن النيابة العامة كانت قد أمرت باحتجاز صحفيّين، وهما أحمد عبد العزيز وحسام الصويفي (اللذين كانا من بين المتظاهرين) لفترة 15 يومًا بانتظار صدور نتائج التحقيق، وذلك بتهمة "المشاركة في احتجاجات غير قانونية" "والتحريض على الكراهية ضد النظام". انّ قانون منع التظاهر الصادر في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي 2013، والذي أثار انتقادات لاذعة من قبل مجموعات الدفاع عن حقوق الإنسان، على اعتبار أنه يشكّل "تهديدًا خطيرًا على الحق في حرية التجمّع"، يُحظّر التظاهر من دون الحصول على تصريح مسبق من قبل الشرطة، كما يسمح لقوات الأمن باستخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين.
كما نظّم المئات من الطلاب الجامعيين داخل الحرم الجامعي لجامعة الأزهر في 10 كانون الأول\ديسمبر الحالي مسيرة احتجاجية تهدف إلى التنديد بخطوة ترامب، متحدّين بذلك قانون منع التظاهر. كما كانت جامعة الأزهر، وهي المؤسسة التعليمية الإسلامية الأقدم، قد شهدت احتجاجات طلابيّة عنيفة بعد الإطاحة العسكرية بالرئيس الإسلامي محمد مرسي في العام 2013. انضم أعضاء الهيئة التعليمية والموظفين إلى المسيرة الاحتجاجية في 10 كانون الأول\ديسمبر الحالي، في خطوة نادرة تُظهر تضامنًا مع الطلاب، رافعين الأعلام الفلسطينية وهاتفين شعارات مناهضة للولايات المتحدة. كما احتشد العشرات من الطلاب والأساتذة داخل جامعة عين شمس في القاهرة وجامعة المنوفية في محافظة دلتا النيل احتجاجًا على القرار الأمريكي. وفي حديث مع لموقع لـ "المونيتور"، قال أحد أساتذة الإعلام في جامعة الأزهر شرط عدم الكشف عن اسمه لأنه غير مخوّل بالحديث إلى الإعلام، إن مشاركة كبار أعضاء الهيئة التعليمية في الاعتصامات دليلٌ على أن السلطات قد أعطت الضوء الأخضر للاحتجاج داخل الحرم الجامعي، وذلك "بهدف السماح للطلاب بالتنفيس عن السخط والخيبة في داخلهم".
تأجّجت موجات الغضب في القاهرة وغيرها من المدن المصرية بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وذلك بعد أن بلغت معدلات التضخم السنوية أعلى مستوياتها منذ عقود، حيث وصلت إلى 33٪ في يوليو الماضي، وبسبب خفض الدعم عن الوقود، وذلك في إطار برنامج الإصلاح الاقتصادي الممتد على خمس سنوات والذي أطلقته الحكومة في منتصف العام 2014 مقابل الحصول على قرض إنقاذ بقيمة 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي. وشملت الإصلاحات تحرير الجنيه المصري بهدف إعادة جذب رؤوس الأموال الأجنبية إلى البلد. ومنذ ذلك الحين، تقلّب سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الجنيه المصري ليصل إلى 19.2 جنيه في الأسابيع الأخيرة من العام 2016، بعد أن كان 8.89 جنيه للدولار الواحد قبل تحرير الجنيه. وفي حين بدا أن سعر الصرف قد استقر في الأشهر الأخيرة، اذ تراوح بين 17.2 و 17.6 جنيه مقابل الدولار، تسبب الانخفاض في قيمة العملة بارتفاع أسعار الكثير من السلع التي باتت تفوق قدرة المواطن العادي على الشراء.
سجّل ارتفاع نسبة التضخم في نوفمبر/تشرين الثاني أبطأ وتيرة نمو له منذ ما يقرب العام، كما ارتفع الفائض الإجمالي في ميزان المدفوعات من 1.9 مليار دولار إلى 5.1 مليار دولار. وعلى الرغم من أن المؤشرات الأخيرة هذه تدل على تحسّن في الأداء الاقتصادي، لا يزال الدرب نحو الانتعاش الاقتصادي طويلًا بالنسبة إلى العديد من المصريين الذين يعملون على تضميد جراحهم بعد المعاناة الاقتصادية في العام الماضي.
أما الخيبة العميقة فتطال أيضًا الشباب المصري الذي شارك في انتفاضة العام 2011 التي أجبرت الرئيس حسني مبارك الذي طال حكمه على التنحي، والذي يرى أن ثورته "قد ذهبت هدرًا". ومع انخفاض مستوى حرية التعبير في البلد منذ الإطاحة بمرسي، يلجأ الناشطون في الثورة إلى وسائل التواصل الاجتماعي بشكل متزايد للتنفيس عن خيبتهم من ما وصفوه بـ "الثورة المضادة" للنظام. أجمع شهود في جلسة استماع عقدت في الكونجرس الأمريكي الأسبوع الماضي حول وضع حقوق الإنسان في مصر على أن البلد "قد انزلق نحو حكم عسكري متسلّط ترافق مع سجلّ غير مرضي في مجال حقوق الإنسان منذ انتفاضة العام 2011". وقدّموا قانون منع التظاهر وقانون المنظمات غير الحكومية كمثال على" التشريعات القمعية" التي أقرّتها حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي. كما أعربوا عن أسفهم بسبب "الانتهاكات المتفشّية للحقوق"، بما في ذلك احتجاز الناشطين من الشباب وأنصار الإخوان المسلمين قبل محاكمتهم والتعذيب داخل السجون وحالات الاختفاء القسري وحجب الحكومة لأكثر من 400 موقع إلكتروني بحجّة ارتباطهم بمنظمات إرهابية. وقد انتقدت وزارة الخارجية المصرية جلسة الاستماع في بيان لها، واصفة ايّاها بالانحياز وبأنها تمثّل "تشويهًا متعمّدًا للأوضاع فى مصر".
ومع ارتفاع حدة التوتر في البلد، ينتاب السلطات التي تتفادى المجازفة في هذا المجال القلق حيال احتمال اندلاع احتجاجات مناهضة للحكومة.
قال الأستاذ في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة حسن نافع لـ "المونيتور"، "تعي الحكومة أن للناس ما يكفي من المشاكل في الوقت الراهن. فقد يؤدي ارتفاع حدة الغضب إلى ثوران مماثل للذي شهده العام 2011".
وأضاف "هناك تخوّف من أن يتحوّل الغضب الشعبي ضدّ النظام نفسه، في حال سمحت الحكومة بالاحتجاج في الشارع. إن الاحتجاجات الوحيدة المسموح بها هي تلك التي يتم تنظيمها داخل حرم الجامعات، بحيث تستطيع قوات الأمن تفريق المتظاهرين بسهولة إذا لزم الأمر". وأشار إلى أن الاعتقالات التي طالت المتظاهرين في الأيام الأخيرة "خير دليل على التخوّف الشديد الذي تشعر به الحكومة".
اعتمدت الوسائل الإعلامية الموالية للحكومة — والتي اعتادت أن تغذّي المشاعر المناهضة للولايات المتحدة — سياسة الحذر في احتواء الغضب المتنامي، مقلّلة من أهميّة اعلان ترامب الأخير ومركزة على انتقاد حماس بسبب "فشلها في الصدق بوعودها بالدفاع عن القدس" بدلًا من ذلك.
"قرار ترامب ليس جديدًا... أميركا اعتبرت القدس عاصمة اسرائيل منذ 22 عامًا". هذا ما عنونته صحيفة "الوطن" الموالية للحكومة في 6 كانون الأول/ديسمبر الحالي. ركّز خالد صلاح، الكاتب الصحفي الموالي للسيسي ورئيس تحرير صحيفة "اليوم السابع" الخاصة، على إغداق الثناء على الجيش. اذ قال خلال أحد البرامج عبر قناة "النهار" الخاصة، ان مصر هي الوحيدة التي نجت في المنطقة العربية، وذلك بفضل وقوف المصريين وراء جيشهم واختيارهم قائد عسكري ذات رؤية. وفي الوقت نفسه، ركّزت صحيفتا الأهرام والأخبار الحكوميّتين تغطيتهما على ردود الفعل العالمية على قرار ترامب.
كما ركّزت خطبة يوم الجمعة الموحدة في المساجد في جميع أنحاء البلد الأسبوع الماضي على "القيم الأسريّة"، وحلّت محل الخطب النارية الاعتياديّة ضد الاحتلال الإسرائيلي. ومما لا شكّ فيه أن رجال الدين قد تلقوا تعليمات بعدم تأجيج الغضب الشعبي المشتعل أصلًا. إلا أن شيخ الأزهر أحمد الطيب، تبنّى موقفًا أكثر حزمًا من غيره من رجال الدين (موظفون مدنيون تعيّنهم وزارة الأوقاف) والذين يجارون الدولة خوفًا منهم على وظائفهم. وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، أعلن عن الغائه الاجتماع مع نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس الذي يزور القاهرة الأسبوع المقبل. وحذّر الطيب في حديث له مع رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير الذي زار مصر من أنه "لو فتح باب نقل السفارات الأجنبية إلى القدس، ستفتح أبواب جهنم". كما دعا الطيب رجال الدين المسلمين إلى تكريس خطب يوم الجمعة هذا الأسبوع للقدس، رفضًا لأي محاولة تهدف إلى تبديل الهوية العربية للمدينة.
قد أثار إعلان ترامب حول القدس موجات احتجاجية دولية. ورأى حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الإعلان بأنه "أجج الصراع في منطقة ملتهبة أصلًا، وهو ما لم يكن ضروريًا". قد تكون الاضطرابات التي شهدتها الأيام الأخيرة مجرد غيض من فيض. وإذ يدرك السيسي أنه يغامر، أدان علنًا هذه الخطوة وسمح للمصريين بالتنفيس عن جزء من غضبهم. أما أنصاره، فحثّوا المصريين على التركيز على القضايا الداخلية. فقد غرّد أحمد وجيه الذي يعتبر نفسه "فاشي ضد أعداء هذا الوطن"، أنه يجب على مصالح مصر أن تحتلّ الأولويّة، لأن لديها ما يكفي من المشاكل.
أما المديرة التنفيذية لجمعية الأعمال البريطانية البريطانية نادية لملوم فكتبت على "فيسبوك"، أنه على من يرى في قرار ترامب مصر شكوى التفكير في الانتقال إلى غزة.