القاهرة – في تحرّك سياسيّ جديد لتأمين المصالح المصريّة في المحيط الأفريقيّ، زار الرئيس المصريّ عبد الفتّاح السيسي دول تنزانيا، ورواندا، والجابون وتشاد من 14 إلى 17 آب/أغسطس، حاملاً في أجندته ملفّات تستهدف حماية الأمن القوميّ المصريّ، على رأسها ملفّ مياه النيل والدعم العسكريّ والفنّيّ في مواجهة المدّ الإرهابيّ في غرب القارة.
حملت جولة السيسي رسائل من الإدارة السياسيّة المصريّة أبرزها نيّة مصر تقديم دعم غير محدود في المجال العسكريّ والأمنيّ لكلّ من تشاد والغابون، سواء من حيث دعم القدرات أم تصدير المعدّات العسكريّة، ومعالجة ملفّ المياه في شكل غير مباشر، بتوجيه دول منابع النيل إلى الاستثمار في مصادر مختلفة لتوليد الطاقة كالرياح والشمس بدلاً من مياه النيل، وتحقيق الاستفادة من النهر من دون الإضرار بمصالح مصر، مع التأكيد المباشر على أنّ مياه النيل بالنسبة إلى مصر مسألة حياة أو موت تستوجب حلّ الخلاف.
وعلى الرغم من إخفاق اجتماعات القمّة الأولى لرؤساء دول حوض النيل التي انعقدت في 22 حزيران/يونيو، برعاية أوغندا، في التوصّل إلى اتّفاق في شأن الخلافات القانونيّة حول إدارة المياه في نهر النيل، إلّا أنّ القاهرة لا تزال مستمرّة في سياسات التقارب وخلق مصالح مشتركة تمكّنها من استقطاب مواقف الدول الأفريقيّة، خصوصاً دول نهر النيل لصالحها.
يقول مسؤول دبلوماسيّ بوزارة الخارجية مطلع على الملف الأفريقي، وصاحب الرئيس في جولته الأفريقية، في حديث إلى "المونيتور": "لدينا خطّة بتحرّك مكثّف على المستويات السياسيّة والدبلوماسيّة والفنّيّة كافّة لتنشيط مناطق الارتكاز الاستراتيجيّ في شرق القارّة الأفريقيّة وغربها، من دون الاعتماد على وسطاء لديهم ثقل في علاقاتهم بدول القارّة كدول الخليج".
وعن اختيار الرئيس السيسي دولتي تنزانيا ورواندا ضمن جولته، يوضح المسؤول الذي فضّل عدم ذكر اسمه: "ندرك خطورة الاعتماد على دولة واحدة كوسيط في قضيّة مياه النيل، حيث أنّ محاولات أوغندا تقريب وجهات النظر بين مصر وباقي دول منابع النيل لم تحقّق شيئاً، لذلك كان من الضروريّ التواصل الثنائيّ المباشر مع دول الحوض ليس فقط لتوضيح وجهات النظر المصريّة ولكن لخلق مصالح مباشرة تقلّل من حجم التوتّر والتوجّس وتؤكّد حرص مصر على تحقيق التنمية ومساعدة دول حوض النيل من دون الاستئثار بمياه النيل وحدها".
ويضيف المصدر: "هناك إعادة تقييم شاملة لرؤية مصر السياسيّة والأمنيّة واستراتيجيّتها في التعامل مع المحيط الأفريقيّ، فسنوات الإهمال السياسيّ والبعد عن المجتمع الأفريقيّ أضرّت في شكل بالغ بالمصالح المصريّة".
كانت وزارة الدفاع المصريّة قد وقّعت بروتوكول تعاون عسكريّ وأمنيّ مشترك مع تشاد، في 2 آب/أغسطس قبيل زيارة الرئيس السيسي إلى تشاد، كما توسّعت الهيئة العربيّة للتصنيع في نشاط تصدير المعدّات والأجهزة العسكريّة إلى عدد من الدول الأفريقيّة، وهو ما يبرز التعاون ودعم القدرات العسكريّة في شكل مباشر لدول القارّة.
يضيف المصدر: "زيادة المدّ الإرهابيّ في غرب أفريقيا وتدهور الأوضاع في ليبيا، وراء الدفع بتغيّر التعامل الأمنيّ المصريّ المباشر مع الدول الأفريقيّة، من دون الحسابات القديمة بالبعد عن أماكن الصراع وعدم الدخول كطرف في دعم أيّ من الفصائل على حساب الآخر".
جولة الرئيس قابلها عدد من المراقبين للشأن الأفريقيّ في مصر بترحيب واسع باعتبارها خطوة على طريق استعادة قوّة العلاقات المصريّة-الأفريقيّة بعد سنوات من الإهمال خلال فترة الرئيس الأسبق محمّد حسني مبارك بعد تعرّضه إلى محاولة اغتيال في أديس أبابا في حزيران/يونيو 1995، والتي كانت سبباً في غياب الحضور المصريّ على المستوى الرئاسيّ في الأوساط الأفريقيّة.
يقول الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسيّة والاستراتيجيّة أيمن عبد الوهاب في حديث إلى "المونيتور": "التحرّك المكثّف نحو أفريقيا يعزّز وضع مصر في خريطة التوازنات السياسيّة والتجاريّة والعسكريّة في القارّة الأفريقيّة، كذلك مواجهة المخاطر التي تتعرّض إليها المصالح المصريّة في مياه النيل وسط تطلّعات التنمية واستغلال مياه النهر في دول المنابع".
ويرى عبد الوهاب أنّ "تركيز الإدارة السياسيّة على لغة المصلحة في استعادة علاقتها بالدول الأفريقيّة ضروريّ لتجاوز الحساسيّات القديمة والاتّهامات الموجّهة إلى مصر بأنّها تريد الاستئثار وحدها بمياه النيل، فضلاً عن أنّ فكرة الردع لم تعد تجدي نفعاً مع الإدارات السياسيّة في أفريقيا".
ويؤكّد عبد الوهاب أنّ "تركيز القاهرة على دعم علاقتها بتنزانيا ورواندا بعدما كان لهما العديد من المواقف المتشدّدة ضدّ مصر في مفاوضات حوض النيل، يستهدف في شكل أساسيّ فكّ الاستحواذ الإثيوبيّ على مواقف دول المنابع تجاه المصالح المصريّة"، إلّا أنّه أكّد أنّ "التغيّر في معادلة المصالح لا يزال مبكراً، بينما لا تمتلك القاهرة الوقت الكافي لتقليل الأضرار المنتظرة على الأمن المائيّ، خصوصاً مع قرب انتهاء إثيوبيا من بناء سدّ النهضة".
وفي مقابل تحرّك السيسي نحو منابع النيل، تزامنت جولته مع مباحثات مكثّفة بين إثيوبيا والسودان، خلال زيارة رئيس الوزراء الإثيوبيّ هلاماريم ديسالين إلى السودان في 17 آب/أغسطس، حول ملفّ مياه النيل وسدّ النهضة، وهو التقارب الذي بدأ يزعج القاهرة، خصوصاً مع دعم السودان المواقف الإثيوبيّة بعدما كانت الحليف الاستراتيجيّ لمصر في ملفّ النيل.
يوضح الخبير في الشأن الأفريقيّ هاني رسلان في حديث إلى "المونيتور": "على مصر الآن محاولة فكّ التحالف الإثيوبيّ مع دول حوض النيل الجنوبيّ ضدّ الأغلبيّة والحشد ضدّ مصر، والذي كانت تعزّزه إثيوبيا بادّعاءات حصول مصر على السيادة المطلقة على مياه النيل"، مؤكّداً بالقول: "ليس بالضرورة أن تنتهي مساعي التقارب المصريّة إلى تكوين حلفاء لها في حوض النيل لكن على الأقل ألّا يكون هناك أعداء".
ولم يبق أمام الإدارة السياسيّة المصريّة سوى اتّباع سياسة النفس الطويل لرعاية مصالحها المباشرة في المحيط الإقليميّ، وفي شكل خاصّ تأمين مواردها الأساسيّة من المياه الآتية من نهر النيل، وهو الملفّ الأكثر تعقيداً مع إصرار دول منابع النيل على استغلال موارد النهر انطلاقاً من مبدأ الاستخدام العادل والمنصف.