في 12 حزيران/يونيو، أصدرت الحكومة التونسيّة بياناً طالبت فيه الجمعيّات والمنظّمات غير الحكوميّة بالكشف عن تمويلاتها الأجنبيّة، وهدّدت بملاحقة كلّ من لم يمتثل إلى التنبيه. أثارت هذه الخطوة، غير المسبوقة منذ سقوط نظام زين العابدين بن علي في عام 2011، جدلاً في أوساط المجتمع المدني المحلي. البعض رأى فيها مواصلة لحملة مكافحة الفساد التي أعلنتها الحكومة في 23 أيّار/مايو الماضي، فيما رأى البعض الآخر أنّها محاولة من السلطة التنفيذيّة للضغط على المجتمع المدنيّ.
دعت الحكومة في بيانها الجمعيّات إلى الكشف عن "كلّ التمويلات الأجنبيّة التي حصلت عليها مع ذكر مصدرها وقيمتها وموضوعها وإعلام العموم بكلّ ذلك في إحدى وسائل الإعلام المكتوبة في أجل أقصاه شهر من تاريخ البيان، وفقاً لأحكام الفصل 41 من المرسوم عدد 88 المتعلّق بتنظيم الجمعيّات الصادر في عام 2011". كما طالبت الجمعيّات التي "استفادت من التمويل العموميّ إعداد تقرير سنويّ يشمل جرداً مفصّلاً لمصادر تمويلها ونفقاتها يقدّم وجوباً إلى دائرة المحاسبات (الرقابة الماليّة)، وفقاً لأحكام الفصل 44 من المرسوم نفسه".
ومنذ سقوط نظام الرئيس السابق بن علي في عام 2011 ومناخ الانفتاح الذي تعيشه البلاد، انتشر نشاط المنظّمات غير الحكوميّة على نطاق واسع في مختلف مناطق البلاد وفي أغلب القطاعات. ويقول المحلّل السياسيّ المستقلّ منذر بالضيافي في مقابلة مع "المونيتور": "هناك في تونس اليوم حوالى 20 ألف جمعيّة، وفقاً لآخر بيانات قدّمها مركز إفادة الحكوميّ الخاصّ بالجمعيّات في أيّار/مايو 2017، غالبيّتها لها أنشطة دعويّة ودينيّة، والتي انتشرت بعد الثورة بما يشبه التسونامي. وقد استفادت من التساهل أثناء حكم حركة النهضة بين عامي 2012 و2013. وهناك تصريحات رسميّة منذ عام 2015 ، كشف عنها كمال الجندوبي وزير الدولة المكلّف بالعلاقة مع المجتمع المدني، تؤكد أنّ الكثير من هذه الجمعيّات الدينيّة تورّطت في ملفّ تسفير الآلاف من الشباب نحو بؤر التوتّر وعلاقتها بالجماعات الإرهابيّة".
وكانت النائب التونسيّة ليلى الشتاوي، قد كشفت في تصريحات صحافية لجريدة أخر خبر، في 19 أيّار/مايو 2017، وذلك في أعقاب إقالتها بسبب الخلافات داخل حزب حركة نداء تونس الحاكم ، من رئاسة لجنة التحقيق البرلمانيّة في تجنيد الشباب التونسيّين الذين التحقوا بالجماعات المسلّحة في الخارج وتسفيرهم، عن أنّ "جمعيّات دعويّة ودينيّة وخيريّة مشتبه بها في تجنيد شبّان تونسيّين وتسفيرهم إلى بؤر التوتّر تلقّت تمويلاً من الخارج".
من جانبه، يرى الحقوقيّ والناشط في المجتمع المدنيّ سامي بن سلامة، أنّ تمويل الجمعيّات يمثّل اليوم مشكلة كبيرة في تونس، فعلى الرغم من أهميّة التمويل الأجنبيّ لضمان استمرار نشاط المنظّمات، إلّا أنّه يطرح في كثير من الأحيان، مشاكل تتعلّق بالأمن الوطنيّ واستقلالية هذه المنظمات. ويفصّل بن سلامة ذلك في مقابلة مع "المونيتور" بالقول: "منظّمة 10_23 لدعم مسار الانتقال الديمقراطيّ التي أنتمي إليها قرّرت منذ إنشائها في عام 2011، رفض تلقّي التمويلات الأجنبيّة أو الحكوميّة حفاظاً على استقلاليّتها، وهو ما يحدّ من نشاطها ومن فعاليّتها. وهذه الأموال على الرغم من أهمّيّتها بالنسبة إلى منظمات المجتمع المدني التونسي، إذ تمكّن بعض الجمعيّات الجادة من تمويل نشاطات وأداء خدمات كبيرة من ناحية التوعية والتثقيف والحثّ على الاهتمام في الشأن العامّ والمشاركة في الحياة السياسيّة عن طريق برامج جيّدة التمويل، وتهتمّ بتوفير حقوق كالتعليم وحقوق والمرأة وغيرها من حقوق الإنسان، إلّا أنّها تخلق إشكاليّات كبيرة من الناحتين السياسيّة والأمنيّة، إذ أنّها في النهاية تمثّل مدخلاً لقوى أجنبيّة تدافع عن مصالحها في تونس للتدخّل في الشأن الداخليّ".
ولا يعتقد بن سلامة أنّ هناك توجّهاً جدّيّاً من الحكومة للتدقيق في التمويلات الأجنبيّة كافّة الموجّهة إلى منظّمات المجتمع المدنيّ التونسيّ، مشيراً إلى أنّ هذه الخطوة تندرج ضمن "عمليّات متقطّعة في إطار الحرب على الإرهاب وتتعلّق بجمعيّات مموّلة خليجيّاً يشتبه بعملها كواجهة لتمويل نشاطات مرتبطة بالإرهاب، لكنّ التمويلات الأجنبيّة لا تقتصر على التمويلات الخليجيّة إذ أنّنا شهدنا منذ عام 2011 تدفّقاً هائلاً لكميّات كبيرة من الأموال من جهّات أجنبيّة أميركيّة وأوروبّيّة تهدف إلى التحكّم في مسار الانتقال الديمقراطيّ في تونس من دون أيّ مراقبة من أجهزة الدولة".
وتحوّل المجتمع المدنيّ في تونس منذ الثورة في العام 2011 ودخول البلاد في مسار الانفتاح السياسيّ، إلى أحد أهمّ مراكز القوى الفاعلة في الشأن العامّ، ويتمتّع بأحقّيّة تلقّي أموال من الخارج لتسيير نشاطه وفقاً للمرسوم عدد 88 المتعلّق بتنظيم الجمعيّات، جعلته يتمتّع بإمكانات مادية كبيرة للنشاط.
ويرى المحلّل بالضيافي، أنّ تحريك الحكومة التونسيّة ملفّ التمويلات الأجنبيّة "سيجعلها في مواجهة صعوبات كثيرة، منها ما يتعلّق بصعوبة إثبات الأنشطة المشبوهة للجمعيّات، وبذلك ستنجح هذه الجمعيات في حسم المعركة القضائية لصالحها لأن القضاء لن يستطيع حلّ أو تعليق نشاط أي جمعية بدون قرائن أو أدلة، هذا فضلاً عن رفض الجمعيّات الحقوقيّة محاصرة المنظّمات غير الحكوميّة، حيث ترى أنّها ستضيّق على دور المجتمع المدنيّ الناشط في هذه المرحلة الانتقاليّة، فوجهة النظر الحقوقيّة ستعتبر تحرّك الحكومة خطوة نحو محاصرة المنظّمات غير الحكوميّة التي تعارض كثيراً سياسات الحكومة".
وفي هذا الاتّجاه، يقول بن سلامة: "توجد معادلة صعبة بين المشاكل الأمنيّة والسياديّة التي يفرضها التمويل الأجنبيّ للجمعيّات، وبين الخشية من أن تستغلّ السلطات ذلك لإجراء تعديلات على قانون الجمعيّات للتضييق على المجتمع المدنيّ، ومنعه من أداء دوره. فأي تعديل لقانون الجمعيات يحتاج إلى الدراسة بعناية بطريقة تشاركيّة، ويجب الحفاظ على سيادة الدولة والحرص على عدم تمكين السلطات من التعتيم على التجاوزات التي يرتكبها أعوانها في حقّ المواطنين، والتي يعمل بعض تلك المنظّمات على رصدها".
ويضمن الدستور التونسيّ، في فصله الـ35 "حريّة تكوين الأحزاب والنقابات والجمعيّات". ويشير في فصله الـ49 إلى أنّه "لا يمكن فرض أيّ قيود على الحقوق والحرّيّات المضمونة إلّا في إطار ما ينصّ عليه القانون، وبما لا ينال من جوهرها، ولا توضع هذه الضوابط إلّا لضرورة تقتضيها دولة مدنيّة ديمقراطيّة وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العامّ، أو الدفاع الوطنيّ، أو الصحّة العامّة، أو الآداب العامّة".
تواجه تونس منذ عام 2011 تحدّيات كبيرة في ظلّ عمليّة الانتقال الديمقراطيّ الصعبة والعسيرة. وأغلب هذه التحدّيات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأمن القوميّ. فالحكومات المتعاقبة منذ رحيل بن علي وجدت نفسها في معادلة صعبة، للموازنة بين الحرّيّات الفرديّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة من جهّة، وضبط أمنها الداخليّ من جهّة أخرى.