بينما كان بنيامين نتنياهو يؤدّي واجب عزاء في مستوطنة عوفرا في الضفّة الغربيّة بعد هجوم إرهابيّ سنة 2001، تباهى بمعرفته الوطيدة بمداخل السياسة الأميركيّة ومخارجها. فقال للعائلة المفجوعة، غير مدرك أنّ مذياع "القناة العاشرة" شغّال: "أعرف ما هي أميركا. أميركا هي شيء يسهل تحريكه. تحريكه في الاتجّاه الصحيح". وأضاف: "لنفترض أنّهم قالوا شيئاً معيّناً، وإن يكن... لم أخشَ التصادم مع [الرئيس بيل] كلينتون... بأيّ حال أنا أدفع الثمن، ولذلك أفضّل على الأقلّ أن أستفيد من ذلك". لكنّ نتنياهو أدرك لاحقاً أنّه ليس من السهل جداً تحريك أميركا.
فعلى الرغم من حسن نيّة أصدقاء نتنياهو الجمهوريّين في الكونغرس وثروة صديقه المقرّب ومالك الكازينوهات شلدون أديلسون، لم يغيّر الرئيس باراك أوباما موقفه من المسألة النوويّة الإيرانيّة. ومع أنّ أوباما لم يسلّم دونالد ترامب مقاليد الحكم بعد، إلا أنّ نتيناهو أعلن أنّه سيقدّم إلى الرئيس الجديد، في اجتماعه الأوّل معه، مجموعة من الخيارات لإلغاء الصفقة النوويّة مع إيران. وفي الواقع، قد يجد رئيس الوزراء الإسرائيليّ أنّ هذا الأمر أسهل ممّا توقّع.
فقد تعهّد ترامب أكثر من مرّة بأنّه إذا وصل إلى المكتب البيضاويّ، سيمزّق الاتّفاق النوويّ إرباً. بالإضافة إلى ذلك، بات لدى إسرائيل الآن شخصيّة شبيه بالملكة إستير – التي هي في الإنجيل زوجة ملك فارسيّ قويّ أنقذ الشعب اليهوديّ من مستشار شرّير - في العائلة الرئاسيّة بشخص إيفانكا ترامب-كوشنر التي اعتنقت اليهوديّة الأرثوذكسية، وهي النوع الوحيد الذي تقبل به الحاخاميّة الكبرى في إسرائيل، بعكس اليهوديّة المحافظة واليهوديّة الإصلاحيّة. وقد تمّ اعتناق إيفانكا اليهوديّة الأرثوذكسيّة بإذن من الحاخام الإسرائيليّ الأكبر نفسه.
لكن عندما يقول نتنياهو إنّه يعرف "كيف يحرّك أميركا في الاتّجاه الصحيح"، فهو يشير بشكل خاصّ إلى الكونغرس. ما يحصل هو أنّه يدفع أوّلاً المساهمين السياسيّين والقادة اليهود البارزين إلى التحرّك لكي يقوموا بدورهم بتحفيز لجنة الشؤون العامّة الأميركيّة الإسرائيليّة "أيباك"، وهي مجموعة ضغط موالية لإسرائيل، من أجل تعبئة المشرّعين لما فيه مصلحة إسرائيل. لكنّ المشكلة هي أنّه في المعابد الإصلاحيّة والمحافظة التقدميّة التي يقصدها غالبيّة اليهود الأميركيّين، ما من فصل بين الرجال والنساء، ويُسمح للنساء بارتداء وشاح خاصّ بالصلاة والقراءة من التوراة، خلافاً للمعابد الإسرائيليّة التي هي في غالبيّتها أرثوذكسيّة. ووفقاً لدراسة شاملة أجراها معهد "بيو" للأبحاث سنة 2013، ينتمي 35% من اليهود الأميركيّين إلى الفرقة الإصلاحيّة فيما ينتمي 18% منهم إلى الحركة المحافظة، ويمارس يهوديّ أميركيّ واحد فقط من أصل عشرة العبادة في معبد لليهوديّة الأرثوذكسيّة.
وعادةً، تشمل محاولة كسب قلوب المانحين الأميركيّين اليهود الكبار وعقولهم دعوتهم لزيارة إسرائيل والحائط الغربيّ في القدس. وهناك، يتفاجأ الضيوف بأنّ المرشدين التابعين لحاخاميّة الحائط الغربيّ يطلبون من النساء التنحّي جانباً إلى منطقة خصّصتها لهم الحاخاميّة الحاكمة في إسرائيل، وبأنّ أوشحة الصلاة مخصّصة للرجال ليس إلا. وهذه ليست سوى البداية.
فإذا أحضرت النساء معهنّ، في زيارتهنّ المقبلة للحائط، وشاحاً للصلاة من المنزل، قد يتعرّضن للاعتقال على يد الشرطة. فبموجب قانون اقترحته في الكنيست أربعة أحزاب من الأحزاب الحاكمة، إنّ المرأة التي تغطّي نفسها بوشاح للصلاة أو تقرأ من التوراة أو ترتدي "التفلين" (علبة صغيرة من الجلد يضعها اليهوديّ على رأسه عند الصلاة) في ساحة الحائط الغربيّ قد يُحكم عليها بستّة أشهر من السجن أو بدفع غرامة بقيمة 10 آلاف (2630 دولاراً). وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الممارسات غير ممنوعة في اليهوديّة الأرثوذكسيّة. وتُعتبر الصلاة المختلطة بين الرجال والنساء انتهاكاً أيضاً لقانون العقوبات.
ويهدف هذا القانون المقترح إلى التحايل على قرار حكوميّ صدر في كانون الثاني/يناير ويقضي بتخصيص قسم من منطقة الصلاة عند الحائط الغربيّ لليهود الإصلاحيّين والمحافظين ولمنظّمة "نساء الجدار"، الذين يطالبون بحقوق متساوية في ما يتعلّق بالصلاة في المكان الأكثر قدسيّة لدى اليهود. وقد وعد نتنياهو وفداً من الحاخامات الأميركيّين الليبراليّين في حزيران/يونيو بالسعي إلى تطبيق القرار في أقرب وقت ممكن. وقبل ثلاثة أشهر، استنكرت رئيسة المحكمة العليا ميريام ناعور رفض الدولة المستمرّ لإصلاح الوضع الجائر في المكان المقدّس. وبغية الاحتجاج على المماطلة في تطبيق القرار الحكوميّ، نظّمت مجموعة من منظّمة "نساء الحائط" صلاة، وقرأت لفائف من كتاب التوراة في القسم المخصّص للنساء في الساحة في 2 تشرين الثاني/نوفمبر، ثمّ قامت بالصلاة بجوار الرجال في ساحة الحائط العليا. وقد هاجم عدد من المحتجّين اليهود الأرثوذكس المتطرّفين الناشطات أمام أعين الشرطة التي لم تحرّك ساكناً.
وسارع رئيس الوزراء إلى تحميل الحاخامات الإصلاحيّين والمحافظين مسؤوليّة "الأحداث المؤسفة" و"الانتهاك الأحاديّ للوضع الراهن عند الحائط الغربيّ". ولم يعرب حتّى عن أسفه أو مخاوفه بشأن القانون الجديد المقترح، أو ينتقد أعضاء تحالفه الذين أيّدوه ودعموه. في الواقع، لم يكن لنتنياهو أيّ ردّ على اقتراح يخالف القرار الذي اتّخذته حكومته ويتجاهل غالبيّة اليهود الأميركيّين ويقضي ببناء حائط شاهق بينهم وبين دولة إسرائيل.
وتحت عنوان "بناء مستقبل يهوديّ مشترك"، تشير وزارة شؤون الشتات على موقعها الإلكترونيّ إلى أنّ الجماعات اليهوديّة حول العالم تتعرّض للإدماج ولخسارة هويّتها اليهوديّة. ولذلك، تعاونت الوزارة، التي يرأسها رئيس حزب اليبت اليهوديّ ووزير التعليم نفتالي بينيت، مع "بروجيكت مومينتوم" لإحضار وفود مؤلّفة من نساء يهوديّات من كلّ أنحاء العالم لزيارة إسرائيل لمدّة ثمانية أيّام. وتستفيد هؤلاء النساء، بحسب الموقع الإلكترونيّ، من هذه الزيارة لـ "تعميق معرفتهنّ بالنواحي المختلفة للديانة اليهوديّة". هل يعني ذلك أنّ بينيت سيعرّفهنّ إلى أعضاء حزبه الثلاثة في الكنيست الذين وقّعوا على الاقتراح الذي يقضي برفض حقوق الصلاة المتساوية عند الحائط الغربيّ والذي يضمن استمرار احتكار الأرثوذكس لليهوديّة؟ بالمناسبة، قبل زيارة الكنيست، قد يكون من الأفضل أن تنتبه النساء لطول تنانيرهنّ وفساتينهنّ. فقد طُلب مؤخّراً من بعض المساعِدات البرلمانيّات اللواتي لم يغطّين أفخاذهنّ بما يكفي مغادرة المكان.
وفي جلسة في 8 تشرين الثاني/نوفمبر للجنة الشؤون الداخليّة في الكنيست أقيمت لمناقشة الجدل حول الصلاة عند الحائط الغربيّ، أشار عضو الكنيست ميكي ليفي من حزب "يش أتيد" الوسطيّ المناهض لرجال الدين إلى أنّه لاحظ أثناء جولة من الاجتماعات في الولايات المتّحدة مؤخّراً "غضباً هائلاً" ضدّ إسرائيل، وأنّ الجماعات اليهوديّة تشعر بأنّ إسرائيل "خانتها". عليه أن يخبر نتنياهو بهذا الأمر، إذ إنّه يبدو أنّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ لا يفهم أنّ أميركا التي يعرف جيّداً كيف يحرّكها لم تعد كذلك.