يعتقد محلّلون كثر أن تركيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) يسلكان مساراً تصادمياً. وتستند حجّتهم في جانبٍ منها إلى الاعتقاد – الذي يتشاركه على ما يبدو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والحكومة التركية إلى حد ما – بأن الولايات المتحدة والناتو أدّيا دوراً في المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز/يوليو الجاري.
عرض وزير العدل بكير بوزداج الذي يتوجّه قريباً إلى واشنطن لمحاولة التفاوض حول ترحيل فتح الله غولن، الداعية التركي المقيم في بنسلفانيا والمتّهم بأنه العقل المدبّر وراء الانقلاب، الموقف التركي بوضوح.
فقد أصرّ بوزداج في مقابلة تلفزيونية: "تدرك الولايات المتحدة أن فتح الله غولن نفّذ هذا الانقلاب. أوباما يعرف ذلك تماماً كما يعرف اسمه. أنا مقتنع بأن الاستخبارات الأميركية على علم بالأمر أيضاً، وكذلك وزارة الخارجية الأميركية... وهناك بلدانٌ أخرى على علم به، لأنه لكل دولة وكالة استخباراتية خاصة بها".
تصريحات بوزداج التي تتضمّن تلميحاً بأن واشنطن والناتو كانا على علم بما سيجري ولم يحرّكا ساكناً، ترجّع صداها وسائل الإعلام الإسلامية الموالية لأردوغان في تركيا، والتي هي مناهضة للغرب في شكل أساسي وتعتبر الناتو عدو الإسلام.
التصريحات على غرار تلك الصادرة عن بوزداج تثير أيضاً ردوداً قاسية من الغرب. يبدو أنه ليس لدى المحلل الاستراتيجي غريغوري كوبلي أي شك بأن "تركيا أعلنت رسمياً الآن أن الولايات المتحدة (وبالتالي الناتو) هي عدوّتها"، ويناشد الحلف التصرّف على هذا الأساس.
الجانب الآخر من الحجّة القائلة بأن صداماً يلوح في الأفق بين تركيا والناتو يستند إلى الاعتقاد بأن أردوغان يستخدم المحاولة الانقلابية الفاشلة للشروع في حملة تطهير واسعة النطاق ضد معارضيه بغية إحكام قبضته على السلطة أكثر فأكثر. يجري التلميح إلى أنه لا مكان لتركيا غير ديمقراطية في حلفٍ يستند إلى مبادئ ديمقراطية.
شجّع وزير الخارجية الأميركي جون كيري هذه النظرة عندما بدا وكأنه يلمّح إلى أنه ليس بإمكان تركيا أن تبقى عضواً في الناتو إذا انحرفت عن الديمقراطية وسيادة القانون في إطار ملاحقتها للأشخاص الذين يقفون خلف المحاولة الانقلابية الفاشلة.
قال كيري للمراسلين رداً على سؤال عن تركيا خلال مؤتمر صحافي في بروكسل مع مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغريني: "لدى الناتو شرط أيضاً في ما يتعلق بالديمقراطية".
أضاف أن "مستوى الحذر والتدقيق" في التعاطي مع المستجدّات في تركيا يرتدي أهمية كبيرة في الأيام المقبلة.
إذا كان الهدف من تصريحات كيري توجيه تحذير، فلا أحد يعيرها آذاناً صاغية في تركيا حيث انطلقت أيضاً بزخم حملة ضد عضوية البلاد في الناتو. ومن بين الأشخاص الذين يشكّكون في هذه العضوية ضباط كبار سابقون في الجيش، على غرار الأميرال المتقاعد جيم غوردنيز.
قال غوردنيز، في مقابلة مع صحيفة "حرييت"، إنه لطالما كان هناك صراع بين "الأطلسيين" و"معسكر أوراسيا" في الجيش، مضيفاً أنه لو نجح الانقلاب، لأصبحت تركياً جزءاً من المخططات "الأطلسية" وهذا ليس لمصلحتها.
تابع: "كانت الخسائر لتشمل إعلان استقلال كردستان، والحكم الذاتي [للأكراد] في جنوب شرق الأناضول، وخسارة قبرص". ولفت غوردنيز إلى أنه على تركيا أن "تؤدّي دوراً يساهم في تحقيق التوازن بين الأطلسي وأوراسيا"، معتبراً أنه من الواضح تماماً أن الناتو لم يعد يخدم مصالح تركيا.
وسأل إذا كانت أنظمة الرادار المتطورة التابعة لحلف الناتو في كورجيك في شرق تركيا، التي تم نشرها بموجب برنامج الدفاع الصاروخي البالستي، تخدم مصالح تركيا. وتساءل أيضاً عن أسباب حرص الناتو على إجراء تدريبات عسكرية في البحر الأسود وممارسته ضغوطاً على تركيا من أجل أن يكون له وجود دائم هناك، مشيراً إلى أنه حتى خلال الحرب الباردة، لم يفعل الناتو ذلك.
تشير تصريحات غوردنيز إلى طبيعة الارتباك السائد في أنقرة بشأن الناتو، لأن أردوغان هو الذي دعا الحلف، خلال قمة الناتو الأخيرة في وارسو، إلى تعزيز حضوره في البحر الأسود كي لا يتحوّل هذا البحر "بحيرة روسية".
تركيا بلد المفارقات المريرة، فغوردنيز – الشديد التمسّك بعلمانيته الكمالية – كان بين الأشخاص الذين تم توقيفهم في ما يُسمّى قضية "بليوز" (المطرقة)، عندما كان لا يزال يخدم في الجيش، وقد حُكِم عليه بالسجن 18 عاماً في العام 2013 بتهمة التآمر للإطاحة بحكومة أردوغان.
ثم جرى الإفراج عنه بعدما استجدّت عداوة بين أردوغان وحليفه الإسلامي سابقاً غولن. اتّهم غوردنيز أنصار غولن في القضاء الذين يتم اعتقالهم الآن بتهمة التخطيط للانقلاب، بأنهم يقفون خلف سجنه واتّهامه بالتآمر لتنفيذ انقلاب.
مهما كُتِب أو قيل في طرفَي المشهد اليوم، الحقيقة هي أن عضوية أنقرة في الناتو لم تُهدَّد قط بعد الانقلابات الناجحة في تركيا في الماضي، وفي حمى الحرب الباردة، ولم يستطع الناتو أن يعرّض للخطر المزايا الاستراتيجية التي كانت تركيا تتمتع بها في مواجهة الاتحاد السوفياتي.
تبقى مكانة تركيا على الخريطة مهمة بالدرجة نفسها لحلف الناتو اليوم، لا بل أكثر أهمية. يعتقد السفير المتقاعد أونال أونسال، مندوب تركيا الدائم لدى الناتو سابقاً، أنه من الصعب على الحلف أن يدير ظهره لتركيا في خضم الاضطرابات التي يشهدها الشرق الأوسط ومنطقة البحر الأسود، وعلى ضوء احتمال وصول ترامب إلى سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة، وتخبُّط الاتحاد الأوروبي بعد الهزيمة التي لحقت به في استفتاء "بريكسيت".
قال أونسال لموقع "المونيتور": "ربما لا تجري الأمور على ما يرام في تركيا، لكن من شأن خروجها من الناتو أن يتسبّب بتعقيدات أكبر، لا سيما إذا مالت أنقرة باتجاه روسيا".
إلا أن أونسال الذي أقرّ بأن ميثاق الناتو يتضمّن شروطاً بشأن الديمقراطية في الدول الأعضاء، لفت إلى أن ذلك لم يمنع البرتغال من أن تصبح عضواً مؤسّساً في الحلف في العام 1949، على الرغم من أنها كانت تخضع لحكم الرئيس السلطوي أنطونيو دو أوليفيرا سالازار.
أضاف أونسال أن ما يُقال اليوم عن العضوية في الناتو وارتباطها بالديمقراطية وسيادة القانون في تركيا، يجب أن يُقال حفاظاً على الشكليّات، مشيراً إلى أن طرد بلد ما من الحلف يقتضي التوصّل إلى إجماع في مجلس شمال الأطلسي، وهو أمر صعب التحقيق في ظل الظروف الراهنة.
بيد أن أونسال لم يُسقط احتمال أن أردوغان قد يقرّر، في إحدى نوبات غضبه الكثيرة، سحب تركيا من الناتو، ملمّحاً إلى أن التداعيات لن تكون كارثية بالنسبة إلى تركيا كما يبدو للوهلة الأولى.
أضاف: "الحفاظ على علاقات تركيا الاستراتيجية مع الولايات المتحدة هو ما سيبقى أساسياً بالنسبة إلى أنقرة، بدلاً من روابطها مع الناتو، والجميع يعلم أن الولايات المتحدة مرادفٌ للناتو".
غير أن كوبلي الذي يزعم أن أنقرة أعلنت الولايات المتحدة والناتو عدوَّين لها، ختم تحليله لموقع Oilprice.com بالتشديد على معضلة التحالفات في التعامل مع تركيا.
فقد كتب: "لم يُجرِ أحد في الناتو أو أي من الدول الأعضاء الأساسية في الحلف حسابات لمعرفة كيف يمكن هيكلة الاستراتيجيات العالمية والإقليمية من دون تركيا، أو ما السبيل لإبعاد الضباط الأتراك من المنشآت التابعة للناتو – ما السبيل لإدارة المنطقة من دون تركيا".
لا يبدو أن الغرب في موقعٍ يخوّله حالياً إجراء هذه "الحسابات"، ما يجعل التلميحات بأن تركيا ستُطرَد من الناتو جوفاء من دون معنى، نظراً إلى ما يجري الآن في العالم.