أخذت المساحة التي يسيطر عليها تنظيم "داعش" في الانحسار. على مختلف الجبهات، في سوريا وليبيا والعراق، تكبّد التنظيم هزائم كبيرة وخسر مدناً وقرى كانت مراكز هامّة له ولمقاتليه، الذين التحقوا به من جهّات الأرض الأربع. تطرح هذه الهزائم المتلاحقة سؤالاً ملحّاً عن مصير آلاف المقاتلين الأجانب في التنظيم وتجدّد مخاوف الدول التي جاءوا منها، وهم في صدد تجهيز أنفسهم للعودة إليها.
وتعتبر الجنسيّة التونسيّة الأكثر حضوراً في صفوف تنظيم "داعش" في سوريا وليبيا والعراق، إذ تشير أغلب التقديرات إلى أنّ عدد المقاتلين التونسيّين في سوريا والعراق يفوق الــ3000 مقاتلاً، أمّا في ليبيا، فيشكّل التونسيّون النسبة الأكبر من عناصر التنظيم، إذ وصل عددهم إلى نحو 500 مقاتل، الأمر الذي يضع السلطات التونسيّة أمام معضلة التعامل مع آلاف العائدين من ساحة الحرب، وهي التي تعاني من وجود مجموعات جهاديّة ناشطة داخليّاً في المنطقة الجبليّة الغربيّة منذ أربع سنوات. وأهم هذه المجموعات هي "كتيبة عقبة بن نافع" الموالية لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، والتي تعتبر امتداداً لجماعة "أنصار الشريعة" و"جماعة جند الخلافة" المبايعة لتنظيم الدولة الإسلامية، وبالرغم من اختلاف ولاءاتها إلا أنها متوحدة في تنفيذ هجمات ضد قوات الأمن والجيش عن طريق الكمائن وزرع الألغام الأرضية، وكبدت القوات الحكومية خسائر بشيرة كبيرة منذ العام 2012.
لم تكشف السلطات حتّى الآن عن أيّ خطّة للتعامل مع هؤلاء العائدين، لكنّها في الوقت نفسه، وضعت العشرات من الذين عادوا، في السجن وفقاً لما ينصّ عليه القانون التونسيّ الذي يعاقب كلّ "مواطن يضع نفسه على ذمّة منظّمة إرهابيّة خارج البلاد". وإلى حدود مطلع العام الحاليّ، عاد إلى تونس نحو 600 مقاتل من بؤر التوتّر المختلفة، وفقاً لوزارة الداخليّة التونسيّة. وكانت السلطات قد وضعت 92 عائداً تحت الإقامة الجبريّة، بعد أيّام على تفجير استهدف حافلة للحرس الرئاسيّ، وأودى بحياة نحو 12 شخصاً، في تشرين الثاني/نوفمبر 2015.
ويرى الباحث في شؤون الجماعات الإسلاميّة هادي يحمد، أنّ ملفّ عودة الشباب التونسيّ المقاتل في سوريا وليبيا والعراق يعتبر اليوم أحد الملفّات الأكثر خطورة على الصعيد الأمنيّ في تونس. ويقول يحمد، وهو مؤلّف كتاب حول التيّار الجهاديّ في تونس، في حديث إلى"المونيتور": "الأخطر أنّ السلطات الأمنيّة التونسيّة ليست لديها، حتّى الساعة، خطّة واضحة للوقاية من خطر هؤلاء، حيث أثبتت العديد من العمليّات الإرهابيّة، التي وقعت في البلاد أخيراً، مساهمة بعض العائدين من ليبيا وسوريا والعراق في نشاطات إرهابيّة".
يشار إلى أنّ الشابّ سيف الدين الرزقي، الذي هاجم منتجع سوسة السياحيّ في تمّوز/يوليو 2015 وقتل 38 سائحاً، بينهم 30 بريطانيّاً، قد تدرّب في معسكرات تنظيم "داعش" في ليبيا، وتحديداً في مدينة صبراتة في المنطقة الغربيّة، وهي المدينة نفسها التي تسلّل منها عشرات المقاتلين التونسيّين إلى مدنية بنقردان التونسيّة في آذار/مارس 2016 الماضي، وهاجموا مراكز أمنيّة وسياديّة، في محاولة منهم لإقامة إمارة إسلاميّة، تابعة إلى تنظيم "داعش" في المدينة، وفقاً لما كشفت عنه التحقيقات الأمنيّة.
ويرى يحمد أنّ "أساليب المراقبة والمتابعة الأمنيّة لم تخفّف، حتّى الآن، من وقع خطورة هؤلاء على الأمن، على الرغم من التكاليف الباهظة والإمكانات اللوجستيّة التي تحتاجها هذه المراقبة، كما أنّ وضع العشرات منهم في السجون هو الإجابة الآنيّة التي اعتمدتها السلطات لمن ثبت ضلوعه في عمليّات إرهابيّة في الخارج، أمّا على صعيد الإدماج الاجتماعيّ فليس هناك أي برنامج مطروح من قبل الحكومة من أجل استيعاب هؤلاء مجدّداً في المجتمع، بل إنّ اختلاطهم بالسجناء العاديّين في السجون يمكن أن تكون له عواقب وخيمة، من خلال قدرتهم على تجنيد عناصر جديدة تحمل أفكارهم".
من جانبه، يطرح النقابيّ الأمنيّ ورئيس المنظّمة التونسيّة للأمن والمواطن عصام الدردوري، مسألة "إثبات جرم الإرهاب" على هؤلاء العائدين وكيفيّة إثبات هويّتهم الحقيقيّة. ويقول الدردوري في هذا السياق في حديثه إلى "المونيتور": "هناك إشكال أمنيّ حقيقيّ في التعاطي مع ملفّ العائدين، وهو في ارتباط وثيق بقطع العلاقات الدبلوماسيّة مع الجانب السوريّ، حيث أنّ الوحدات الأمنيّة لا يمكنها أن تكشف عن العناصر التي تورّطت في أعمال إرهابيّة، إلا إذا توافرت الأدلّة والقرائن وهذا ما يصعب توافره في غالب الأحيان، إذا لم يكن هناك تعاون أمنيّ بين تونس وباقي الدول والأجهزة الأمنيّة، فما بالكم إذا تعلّق الأمر بقطع العلاقات بصفة نهائيّة، إضافة إلى أنّ العناصر التي تتحوّل إلى بؤر التوتّر تتنقّل عبر مسالك غير شرعيّة، وهو ما يجعل قرينة الإثبات تكاد تكون منعدمة".
وطرحت قيادات في النقابات الأمنية، في سبتمبر/ أيلول الماضي، مقترحات لمجابهة قضيّة العائدين من ساحات الحرب، طالب بعضها بالمضيّ في سحب الجنسيّة من هؤلاء، غير أنّ هذا المقترح يصطدم بالفصل 25 من الدستور الذي يمنع "سحب الجنسيّة من أيّ مواطن أو تغريبه أو تسليمه أو منعه من العودة إلى الوطن". فيما ذهب زعيم حركة النهضة الإسلامية، راشد الغنوشي، إلى طرح "قانون التوبة" في آب/أغسطس 2015، في محاولة لإعادة إدماج هؤلاء في المجتمع، مسترشداً بتجارب الجزائر والمغرب، لكن حركته لم تبادر إلى تقديم مشروع قانون في هذا السياق. لكنّ عصام الدردوري يرى أنّ هذا المقترح ليس إلّا "محاولة لإيجاد مخرج قانونيّ لهؤلاء، وهو ما يمكن أن يفتح الباب أمام مخاطر أمنيّة خطيرة".
ويضيف الدردوري: "إنّ فتح باب العودة أمر يستدعي بالضرورة صياغة برامج مشتركة من طرف كلّ الهياكل والمؤسّسات المتداخلة، كالمؤسسة الأمنية والعسكرية والقضاء والشؤون الدينية والشؤون الاجتماعية، لضمان عدم تسرّب هؤلاء المقاتلين العائدين داخل المجتمع من ناحية، ولإعادة إدماج من يمكن إدماجهم مجدّداً في الحياة الاجتماعيّة وتأهيلهم، بعد استيفاء مراحل التحرّي عنهم والتحقيق معهم. لكن لا بدّ لنا أن نحذّر من عمليّة تقنين عودة هذه العناصر التي أصبحت بدورها تبحث عن فرص مماثلة، سواء في إيجاد مواطئ أقدام جديدة لها أم في الالتحاق بخلايا نائمة أم في تنفيذ عمليّات انتقاميّة".
ولا يتوقّع الباحث يحمد، أنّ الطريق ممهّدة لالتحاق هؤلاء العائدين من بؤر التوتّر بالجماعات الجهاديّة الناشطة في الجبال الغربيّة لتونس، فالحصار الأمنيّ الذي تفرضه القوات الحكومية على مخارج ومداخل المنطقة الجبلية، غير سانح في الوقت الحاليّ لالتحاق هؤلاء بهذه المجموعات، على الأقل في المدى القريب والمتوسّط. لكنّ يحمد يشير إلى أنّ "هؤلاء المقاتلين الذين تمرّسوا في ساحات الحرب أصبحوا يشكّلون احتياطاً قتاليّاً مدرّباً وجاهزاً للانخراط في أيّ معركة مقبلة ضدّ الدولة والمجتمع، في حال دخلت البلاد في أيّ تطوّر أمنيّ خطير".