بيت لاهيا: في النهار عامل نظافة، وفي اللّيل لاعب سيرك... هذا واقع الشاب يوسف خضر (25 عاماً). ليس غريباً على قطاع غزّة أن يعمل شاب في مجال تنظيف الشوارع والمرافق العامّة، خصوصاً على بند مشاريع التشغيل الموقّت، لكنّ الغريب هنا أن يكون لاعب سيرك. إنّ مشاريع التشغيل الموقّت لا تزيد مدّتها عن الستّة أشهر ولا تقلّ عن الثلاثة، توفّرها وكالة غوث وتشغيل اللاّجئين الفلسطينيّين "الأونروا" أو مؤسّسات المجتمع المدنيّ للخرّيجين العاطلين عن العمل.
ويبدو يوسف خضر سعيداً بكونه يعيش الحالتين، إذ قال: "اليوم، أمسكت المكنسة وأخذت ألعب بها بهلوانيّات، فضحك زملائي".
ورغم المرارة في حديث خضر، لكنّه لا يبالي بنظرة المجتمع إليه، سواء لم يقدّر عمله في النظافة أو استغرب عمله في مجال السيرك، وقال: "أحبّ كوني عامل نظافة، فمن هذا العمل أعيش. كما أنّني ممتنّ لكوني عرفت السيرك في حياتي، فقد خلّصني من الطاقة السلبيّة، وجعلني أتفاعل مع الناس في شكل إيجابيّ".
ووصف خضر كيف يتلقّى أحياناً الضربات من الأطفال والكبار على السواء، حين يرتدي زيّ المهرّج أو الدمى الكبيرة، فيبدو أنّ الجميع يريد التأكّد من كونه حقيقيّاً!.
لقد تلقّى خضر التدريب على ألعاب السيرك في مدرسة السيرك، وهي الأولى من نوعها في قطاع غزّة. ورغم عمره المتقدّم نسبة إلى بقيّة زملائه، إلاّ أنّه بدا شديد المرونة، وهو يصعد إلى أرجوحة "الترابيز" ويتشقلب في الهواء.
وإلى جانب قصّة خضر، هناك حكايات لعشرين يافعاً وطفلاً أعضاء في مدرسة السيرك، وجميعهم يلعبون بخفّة ورشاقة على أرضيّة مبطّنة بمراتب الإسفنج، ويقفزون من فوق بعضهم في ألعاب بهلوانيّة. كما أنّ هناك من يؤدّي ألعاب الخفّة برمي الكرات، وألعاب التوازن بالمشي على السيقان الطويلة.
وفي هذا السياق، قال أحد مدرّبيهم محيي الحلو: "يأتون يوميّاً ما عدا فترة الإمتحانات ويتعلّمون مجّاناً. كما يقدّمون العروض من دون أن يحصلوا على مقابل سوى أنّهم يقضون الوقت بممارسة هوايتهم، ويسعدون الناس".
بالتأكيد عروض السيرك، الّتي يؤدّيها هؤلاء الفتية، لن تكون كعروض سيرك دوسليه الفرنسيّ، فأدواتهم قليلة وشحيحة، من الطابات والحلقات الملوّنة والسيقان الحديديّة الطويلة، إضافة إلى "السيلكس"، وهو حبل من القماش مربوط في السقف. كما أنّهم يتدرّبون في مكان يشبه المرآب الواسع، عالي السقف، ويدفعون إيجاره البالغ 1200 دولار سنويّاً، يدفع المبلغ بشكل غير ثابت بعض الأصدقاء وبعض مدارس السيرك الأوروبية.
وتقع المدرسة في مدينة بيت لاهيا بشمال قطاع غزّة، وهي المدينة ذاتها حيث يسكن أعضاء المدرسة، ما عدا شاباً واحداً من حيّ الزيتون في شرق غزّة، وهو ابراهيم أبو ندى (19 عاماً)، الّذي قال وهو يلعب لعبة الخفّة برمي ثلاث كرّات في الهواء: "سمعت كثيراً عن مدرسة السيرك، وحاولت التّواصل مع الأعضاء حتّى نجحت في الإنضمام إليهم. لقد كان حلمي أن أكون لاعب سيرك منذ أن رأيت عروضاً للسيرك المصريّ في غزّة قبل أربع سنوات".
من جهته، تسلّق الشاب محمّد عبيد (22 عاماً) حبل القماش أيّ "السيلكس"، فوصل إلى أعلى نقطة تلامس السقف، على وقع تصفيق زملائه. وبعد أن نزل، قال لـ"المونيتور": "أنا في الأصل لاعب جومباز. وحاليّاً، انضممت إلى السيرك، لأنّي أستطيع توظيف مرونتي الجسديّة بألعاب القوى والبهلوانيّات".
وبالفعل، يبدو عبيد أنّه أتقن الألعاب بسهولة، فرغم الأربعة أشهر القليلة الّتي قضاها في المدرسة، إلاّ أنّه يبدو محترفاً. كما قدّم العديد من العروض إلى العامّة.
وفي هذا المجال، أكّد مؤسّس المدرسة ماجد كلوب، الّذي كان يوجّههم ويضبط وضعيّة أجسادهم أثناء التمرين، أنّهم كانوا فريقاً صغيراً قبل تأسيس المدرسة، وتلقّوا تدريباً على ألعاب السيرك على يدّ مدرّبة السيرك العالميّة بابو شانيز في مؤسّسة "الجبل" البلجيكيّة، الّتي استضافها مركز "القطّان للطفل" في عام 2011. ثمّ تكرّرت ورشة العمل مرّتين حتّى عام 2012، إذ منعت إسرائيل وقتها دخول الوفد البلجيكيّ إلى القطاع دون إبداء أسباب ذلك المنع.
وقال ماجد كلوب لـ"المونيتور": "لكنّ هذا المنع لم يوقفنا، بل قمنا بتعليم آخرين على التدريبات الّتي تلقّيناها بجانب التعلّم من مقاطع فيديو على الإنترنت، وهؤلاء الشباب الّذين هم حولنا اليوم كانوا معي أطفالاً وقتها، فتدربّنا وقدّمنا عروضاً في المدارس والمستشفيات، ولكن من دون أن يكون لنا مقرّ نتدرّب فيه".
وأشار إلى أنّ ظروفهم تحسّنت، فقد أصبحوا شركاء مع مدرسة "كرامبا للسيرك" الإسبانيّة في عام 2013 وتدرّبوا على أيدي مدرّبيها حين زاروا غزّة في العام ذاته. كما قدّمت إليهم أدوات السيرك وألعاب الخفّة، إضافة إلى أدوات أخرى قدّمتها مؤسّسات وأصدقاء من العالم، وساعدهم هذا الدعم، أخيراً على استئجار مقرّ للمدرسة.
"على الفاضي"... إنّها العبارة الّتي سمعها كلّ من شرف مسلمي (17 عاماً) وعاصم عمر (17عاماً) وأصيل أبو حلوب (16 عاماً) من عائلاتهم، حين قرّروا الإنضمام إلى مدرسة السيرك في عام 2011. وأوضحوا أنّ عائلاتهم كانت ترى ألاّ جدوى من السيرك وأنّها هواية غير نافعة، ولكنّها بمجرّد أن شاهدت عروضهم تغيّرت نظرتها كليّاً وأصبحت فخورة بهم.
محمّد مسلمي، وهو الشقيق التوأم لشرف، له تجربة مختلفة فقد أكد أنّ مدرسة السيرك كانت نقطة تحوّل في حياته، قائلاً: "كنت أشعر بالنبذ في المدرسة، ولكن بعد أن تعلّمت فنون السيرك، زادت ثقتي بنفسي، وأصبح لي أصدقاء كثر، فأنا أؤدّي أمامهم ألعاب خفّة لا يستطيع الكلّ أداءها، بل هي شيء نادر، ممّا جعلني مشهوراً بينهم".
أمّا مصطفى عمر (19 عاماً) فأشار، بعد أن أدّى قفزات الترامبولين، إلى أنّ حلمه تقديم عروض في مدارس سيرك عالميّة، ويعتبره حلماً أقرب إلى التحقيق من إقامة خيمة سيرك ثابتة لعروضهم في القطاع.
لم يعد يوسف خضر يملك الوقت ليسلّي زملاءه بالمكنسة، فالعروض تنهال على فريق مدرسة السيرك، ليشارك في الإحتفالات والمهرجانات، ويعمل من دون كلل كمهرّج أو بهلوان أو رجل طويل القامة أو مؤدّي لأعمال الخفّة، من أجل إسعاد الآخرين، لكنّه ككلّ العاملين في السيرك، لا تعرف متى يكون سعيداً حقّاً!.