كان الاتحاد السياسي بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء المستقيل أحمد داود أوغلو بمثابة زواج هنيء ومريح لكلّ من الطرفين. وقد علم داود أوغلو ذلك عندما اختاره أردوغان لخلافته على رأس حزب العدالة والتنمية وبالتالي رئاسة الوزراء في تركيا.
وكان الرئيس التركي السابق عبدلله غل هو من دفع برئيس الوزراء المنتهية ولايته إلى وسط الساحة السياسية وأوّل شخص يقوم داود أوغلو بتخييب أمله به.
فعندما قبل داود أوغلو ترشيحه لرئاسة الوزراء أعرب عن امتنانه لشيوخ الحزب من دون أن يذكر غل، وفشل بذلك في اجتياز اختبار ثقة غل وفي ما بعد خيّب أيضًا ثقة أردوغان.
بتاريخ 18 مايو الحالي، أي قبل يومٍ واحدٍ من تعيين بن علي يلدرم ليحلّ محل أوغلو رئيسًا للوزراء، قام ترهان أردم، وهو محلّل سياسي بارز في الشؤون الداخلية، بتفسير ما يجري من أحداث على أنه بداية حكم الرجل الواحد في تركيا في إشارة إلى حكم أردوغان التعسفي.
وبحسب تحليل أردم، البداية كانت مع الاتنخابات التي جرت في 12 يونيو 2011 التي وضعت المراحل الثلاث لتكريس حكم الرجل الواحد: التحضير لهذه المرحلة، الانتقال إلى حكم الفرد من ثمّ بداية الحكم.
وفقًا لأردم، بدأت المرحلة الأولى في عام 2011 عندما استحوذ حزب العدالة والتنمية على 50% من الأصوات وحقّق فوزًا تشريعيًا ساحقًا. أمّا المرحلة الثانية فكانت في 10 أغسطس 2014 عندما تمّ انتخاب أردوغان بأكثر من 50% من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التركية الأولى على المستوى الشعبي. وجاءت المرحلة الثالثة في 4 مايو الحالي عندما دفع أردوغان داود أغلو جانبًا.
تهدف الدائرة الإسلامية لحزب العدالة والتنمية إلى إحياء المجد العثماني في شخصية أردوغان. فهي تريد حاكمًا سلطويًا بحوزته أوراق إسلاميّة قوية وفي الوقت نفسه شخصية سياسية دولية داهية مثل السلطان عبد الحميد الثاني. والمتطّلعون على الحقبة العثمانية الأخيرة يمكنهم إدراك ذلك. وبنظر الإسلاميين في تركيا، إلى جانب السلاطين مؤسسي الدولة العثمانية، يبقى عبد الحميد الشخصية الأكثر احترامًا. وقد حكم من عام 1876 إلى عام 1912 حين تمّت إقالته بخزية على يد الأتراك الشباب أي الذين مهّدوا الطريق للكماليين ولعلمانيي اليوم.
وسجّل التاريخ أن عبد الحميد لم يكن طاغية مهووس بجنون العظمة وحسب بل كان أيضًا مجدّد ومحدّث. فمعظم المؤسسات الموالية للغرب المرتبطة بتركيا الجمهورية من المحاكم العليا إلى المدارس الثانوية الفنية وغيرها من أمثلة التحديث الحضري تدين له بالكثير.
في هذا السياق، يمكن القول أن رئيس الوزراء المعين حديثًا هو الخيار الأفضل ليكون الوزير الأكبر للسلطان العظيم. وعلى عكس داور أغلو، العقل المدبر وراء نظريات غير واقعية أدّت إلى كوارث على سياسة أردوغان الخارجية، يتميّز يلدرم بأنه تكنوقراطي ناجح ويقوم بانجاز الأمور بطريقة ملموسة من دون إظهار ذرة من الأنا. فهو فعّال من دون المحاولة التفوق على رئيسه وقد أظهر ولاءً جليًا لأردوغان منذ ما يقارب ربع قرن.
داود أغلو كان يتظاهر بأنه موال لأردوغان ولم يتخذ الاحتياطات الكافية لإخفاء تذمرّه عن "الرئيس". أمّا يلدرم فهو يخدم بكلّ إخلاص تحت مظلة أردوغان.
سلّم غل داود أغلو لأردوغان ولكن يلدرم لطالما كان رجله المخلص ويده اليمين. فعندما تولى أردوغان منصب رئيس بلدية إسطنبول كان يلدرم ضمن حاشيته الصغيرة. وكان أيضًا التكنوقراط الوحيد الذي تعّلم على مقاعد مدرسة إمام خطيب الدينية تمامًا مثل إردوغان. وتابع يلدرم دراسته الجامعية في جامعة إسطنبول التقنية. وكان رؤساء الوزارة السابقين سليمان ديميريل و تورغوت أوزال ومرشد الإسلام السياسي في تركيا نجم الدين أربكان أيضًا من خرّجي جامعة إسطنبول التقنية.
ديميريل تخصص بالهندسة المدنية، وأوزال الهندسة الكهربائية وأربكان الهندسة الميكانيكية. أمّا يلدرم فقد درس الهندسة المعمارية البحرية وهندسة المحيطات وحصل على درجة الماجستير في السلامة البحرية والحماية البيئية من الجامعية البحرية العالمية في مالمو في السويد.
في التسعينات عندما كان أردوغان رئيس بلدية مدينة إسطنبول، خدم يلدرم في منصب المدير العام لشركة إسطنبول للعبّارات السريعة التي كانت ذروة النجاحات التي أشرفت عليها بلدية إسطنبول تحت إدارة أردوغان.
وبصفته عضوًا من دائرة المقربين لأردوغان، برز يلدرم كأحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية في عام 2001 وأصبح أيضًا وزير النقل وبعدها بعام وزير الشؤون البحرية والاتصالات وهو القطاع حيث يمكن لأردوغان القول أنه قدّم فيه الحكم الرشيد والخدمات الجيدة.
وعلى الرغم من أن يلدرم تعرّض لانتقادات شديدة بسبب انحراف مميت لقطار فائق السرعة، إلا أنه يستحقّ التقدير لأن له الفضل بتطوير نظام السكك الحديدية فائقة السرعة في تركيا. ومن أهمّ انجازات رئيس وزراء أردوغان الجديد أيضًا بناء شبكة من الطرق السريعة عندما تولى منصب وزير النقل، تاركًا بصمته الواضحة وراءه. لطالما دعم يلدرم رئيسه دعمًا قويًا وبقي متخفيًا عن الأنظار.
فخلفية يلدرم وأدائه جعلاه المرشح الأفضل لخلافة أردوغان عندما انتخب رئيسًا للبلاد في عام 2014 ولكن تلك كانت مرحلة الانتقال إلى حكم الرجل الواحد وليس بروزه، الأمر الذي يحصل اليوم.
بدلًا من ذلك، تمّ اختيار داود أوغلو وبقي يلدرم مستشارًا لإردوعان في حكومته في منصب يذكرنا إلى حدّ ما بالمفوضين السياسيين السوفيات.
بتاريخ 19 مايو الجاري، نشرت صحيفة اسرائيلية مقالًا بعنوان "تركيا تكنوقراطية مع رئيس جديد للوزراء. فوز أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية بالتزكية بعد استقالة داود أغلو يعزّر فرص أردوغان في محاولاته لمزيد من السلطة". وافتتحت صحيفة وول ستريت جورنال مقالها على الشكل التالي: "اختار الحزب الحاكم في تركيا حليفًا قويًا لرجب أردوغان ليصبح زعيم الحزب يوم الخميس، مما يمهد الطريق أما رئيس وزراء جديد يدعم أوليّات الرئيس التركي بما في ذلك تنفيذ إصلاحات دستورية لمنحه مزيدًا من السطلة". لم يشكّل هذا الأمر مفاجأةً لأي أحد.
فكلّ من اعتقد أنّه كان سيتمّ اختيار وزير الطاقة الحالي وصهر أردوغان بيرات البيرق في هذا المنصب لا يعرف كيف يقرأ الرئيس التركي. فإذا كان إردوغان يرغب بإقامة سلاسة "جمهورية" باعتباره رئيس أو سلطان سلطوي فهو يحتاج إلى رئيس وزراء أو كبير وزراء يمكنه، وذلك بصرف النظر عن ولائه الثابت، أن يقدم التوجيه في الحكم إلى "أسرة السلطان" وأن يكون رجلّا سياسيًا قادرًا وفاعلًا. لذا يلدرم هو الاختيار المثالي لرئاسة الوزراء في خلال الفترة التي تلت فترة رئاسة أردوغان.
ومن يظنّ أن يلدرم سيقبع وراء الأضواء بصفته رئيس للوزراء فهو على خطأ. فيجب ألّا ننسى أنّه رجل إدراي ودؤوب وذات خبرة واسعة وثابث أيضًا في ولائه لأردوغان. فهو على علمٍ بالشؤون الدولية والتغيرات التشريعية في السياسة الداخلية التي ستغير تركيا هي ضمن دائرة أردوغان المقربة وهو داعم لأردوغان لذا يبقى الخيار الأفضل للرئيس.