مدينة غزّة - "أعتّم؟ أعتّم"؟... على هذا السؤال، أصرّ أحد موظّفي إدارة مركز رشاد الشوا، في مدينة غزّة على سماع الإجابة بوضوح من مدير المركز عبر هاتفه النقّال، ويبدو أنّ الإجابة كانت نعم، ففد توجّه إلى غرفة التحكّم الصغيرة في نهاية قاعة العرض التي كانت تضجّ بالجمهور الذي تجاوز عدده الألف، وستكون هذه اللحظة بداية الصراع على إضاءة الأضواء وإطفائها طوال أربعة أيام من المهرجان الذي بدأ في 12-5-2016.
كان أغلب الحاضرين يجلسون على الكراسي وهناك من افترش الأرض، وعدد لا يستهان به وقف يستند إلى الجدران، فالجميع جاء لحضور افتتاح مهرجان السجّادة الحمراء السينمائيّ بنسخته الثانية، ولمشاهدة فيلم الافتتاح "يا طير الطاير" الذي يتحدّث عن قصّة حياة الفنّان الغزّيّ محمّد عساف، صاحب لقب محبوب العرب بنسخته العربيّة في عام 2013.
وبالفعل، بعد مرور نصف ساعة على بدء الفيلم، أطفأ الموظّف الأضواء البيضاء، فكانت ردّة فعل الجمهور فوراً التصفيق، لأنّه لم يكن قادراً على رؤية الشاشة جيّداً، إلّا أنّ سعادته لم تكتمل، فبعد عشر دقائق، أنار الموظّف ذاته الأَضواء مرّة أخرى.
وكان "المونيتور" قد سمع حديث الموظّف عبر الهاتف، فسأله عن سبب إنارة الأضواء ثانية، على الرغم من أنّه حصل على الإذن بإطفائها، فردّ الموظف: "ليس أنا، إنّها المباحث، لقد وافق بالفعل مدير المركز، ولكنّ المباحث ترفض الإطفاء التامّ"، مشيراً إلى رجل المباحث، وهو شابّ في العشرينيّات من عمره يرتدي زيّاً مدنيّاً.
توجّه إليه "المونيتور"، ولكنّه رفض الإدلاء بأيّ شيء سوى بالقول: "لقد قلت لهم أن يقوموا بالإطفاء، ولكن ليس كلّيّاً، لا توجد قاعة في قطاع غزّة يتمّ إطفاؤها في شكل تامّ أثناء عرض فيلم"، في إشارة إلى إمكانية حدوث أي فعل منافي للأخلاق في الظلام.
تكرّر هذا الجدل حول إطفاء الأنوار مرّات عدّة أمام الصحافيّين، إضافة إلى مشاكل أخرى تتعلّق بضعف المولّد الكهربائيّ، ممّا أثّر على صوت السمّاعات، الأمر الذي تسبّب في توتّر القائمين على المهرجان خلال عرض فيلم الافتتاح، ويعتبر العرض الأوّل في القطاع بعد شراء المهرجان حقوقه.
من جهته أكّد وكيل وزارة الثقافة في غزّة عاطف عسقول أهميّة أن تكون هناك ثقة بالجمهور، وأنّ وزارته مع إعطاء مساحة مناسبة تسمح بفعل ثقافيّ حقيقيّ يراعي القيم والأخلاق، مشيداً بالمهرجان الذي يحمل بعداً إعلاميّاً مهمّاً في تسليط الأَضواء على غزّةـ، ومضيفاً لـ"المونيتور": "حتّى وزارة الداخليّة في غزّة يجب أن يكون عندها تفهّم لهذه الفعاليّات وجمهورها، ولا داعي للرقابة اللصيقة".
وقال مدير المهرجان المخرج خليل المزين: "الإضاءة ليست المشكلة الأولى مع الداخليّة في غزّة، فعند حوالى الساعة 8:45 صباحاً، في يوم افتتاح المهرجان ذاته في 12 أيّار/مايو 2016، اتّصل بي رقم مجهول قال إنّه من المباحث التابعة للشرطة".
ومن المعروف أن وزارة الداخلية في قطاع غزة تقودها حركة حماس، وكذلك جميع الوزارات والبلديات في قطاع غزة، تتحكم بها حركة حماس، ولا تمارس حكومة التوافق في القطاع أي سلطة فعلية على الأرض.
وأضاف المزين: "ذهبت بالفعل إلى الاجتماع معهم، وطلبوا منّي التوقيع على تعهّد بعدم الاختلاط بين الذكور والإناث خلال المهرجان، وهو ما قاومته بشدّة. ففي الافتتاح، هناك حشود كبيرة وعائلات من الصعب الفصل بينها، ولكن لم ينجح توسّط وزارة الثقافة في غزّة، ممّا دفعني إلى توقيع التعهّد في نهاية الأمر".
ينفي وكيل الوزارة عسقول علمه بموضوع هذا التعهّد، قائلاً: "أعرف فقط أنّ هناك ترتيبات معيّنة تمّت بين المزين وبين الجهّات المشرفة على المكان".
مهرجان السجّادة الحمراء يتمّ تنظيمه قبل افتتاح مهرجان كان السينمائيّ في فرنسا بيوم، كرسالة أنّ في غزّة أيضاً مهرجانها السينمائيّ على الرغم من الحصار والحروب، وهو ما صاحبته ضجّة كبيرة العام الماضي حين تمّ افتتاحه في الهواء الطلق في حيّ الشجاعيّة الذي دمّره الاحتلال في حرب 2014.
هذا العام، لم يصحب المهرجان الصخب ذاته، فلم يتمّ الافتتاح في ميناء غزّة كما كان يخطّط المزين وفريق عمله، حيث يقول لـ"المونيتور": "منذ البداية، حاولنا الحصول على ترخيص لإقامة المهرجان في الميناء، لكنّ الجهّات الرسميّة رفضت". موضحا أنهم طلبوا منه اختيار مكان مغلق فاختار مركز رشاد الشوا.
ولم يؤثّر شيء على أن تبقى السجّادة الحمراء سيّدة الموقف، فقد رسمت الابتسامة على وجوه المئات أثناء الافتتاح الذي حمل شعار "بدنا نتنفّس"، فقد بسط المزين بيديه السجّادة على امتدادها، محاطاً بوسائل الإعلام، ليمشي عليها الخطوة الأولى والجماهير حوله، وامتدّت السجّادة على مدرّج البوّابة حتّى قطعت الشارع المقابل لها، وتوقّفت عشرات السيّارات، وملأ زميرها الأجواء وخرجت الوجوه من نوافذها يجذبها اللون الأحمر.
وقف ابراهيم واسماعيل أبو النمر (41 و26 عاماً) من خانيونس، يلتقطان صوراً. يقول ابراهيم لـ"المونيتور": "جذبني الناس الذين يمشون على السجّادة الحمراء، فقرّرنا فعل الشيء ذاته والتقاط الصور". قريبه اسماعيل يبتسم قائلاً: "سمعنا أنّ هناك فيلماً عن محمّد عساف، سنشاهده، فالدعوة للجميع".
اللون الأحمر ذاته هو ما جذب بائع القهوة المرّة محمّد خليفة الذي وقف يبيعها في فناجين للزائرين. ويقول للمونيتور: "جذبتني فرحة الناس والكاميرات، فجئت كي يكتمل المشهد برائحة القهوة".
بدأت فعاليّات الافتتاح بعزف حيّ على البيانو أدّته سارة عقل(16عاما) من معهد إدوارد سعيد للموسيقى تلتها الكلمات الترحيبيّة. ثمّ عرض فيلم عسّاف وسط عراقيل الصوت والإضاءة، ومع ذلك لم تتحرّك الجماهير من مكانها حتّى نهاية الفيلم الروائيّ الطويل.
وبدا الفيلم غير واقعيّ في التعبير عن غزّة التي أظهرها مليئة بالجبال، وكان عسّاف يعمل وهو طفل في مدينة العريش في مصر، مستخدماً في طريقه إلى هناك الأنفاق على الحدود، والتي لم تكن موجودة وقتها.
لم يتأثّر جمهور غزّة، وهو يشاهد غزّة غير حقيقيّة على الشاشة، بل صفّق طويلاً في نهاية الفيلم حين حصل عسّاف على اللقب، وضجّت القاعة بالصراخ وكأنّ عسّاف فاز مرّة أخرى. إنّها اللحظة التاريخيّة ذاتها.
في اليوم الثاني للمهرجان الذي استمرّ أربعة أيّام بمشاركة حوالى 30 فيلماً عربيّاً وأجنبيّاً تتناول مواضيع حقوق الإنسان، تأخّر عرض الأفلام في قاعة رشاد الشوا حوالى الساعة بسبب إصرار رجال الأمن على إبقاء الإنارة البيضاء مرّة أخرى.
وبعد مفاوضات، وضع المزين وفريقه "سبوتين" للإضاءة بلون برتقاليّ ضعيف، كبديل عن الأبيض القويّ، ينيران القاعة في وسطها ونهايتها، وعرض فيلم "3 آلاف ليلة" للمخرجة مي المصري، والذي يتحدّث عن حياة الأسيرات في سجون الاحتلال، ولاقى تفاعلاً كبيراً.
التقط الجميع أنفاسه حين انتقل عرض الأفلام في اليومين الثالث والرابع إلى مسرح المسحال غرب غزّة، وكان الاتّفاق بين رجال الأمن وإدارة المهرجان هذه المرّة يقضي بإطفاء كامل لصالة العرض مقابل فصل تام بين الذكور والإناث، وهو ما حدث فعلاً!