مدينة غزّة - وقف عدد من المارّة أمام مخبز "السكافي" وسط مدينة غزّة، معجبين بمهارة الخبّاز الفلسطينيّ محسن السكافي (19 عاماً)، وهو يقلب قطعة من العجين بين يديه مراراً وبسرعة كبيرة، لتصبح رقيقة دائريّة كبيرة، قبل أن تُخبز في فرن الصاج.
ويعدّ خبز الصاج جزءاً من التراث الفلسطينيّ، ويعرفه الغزّيّون بهذا الاسم نسبة إلى صفيحة حديديّة محدّبة تنقل الحرارة من الموقد المشتعل أسفلها إلى العجينة أعلاها لإتمام الخبيز، فيما يعرفه آخرون باسم خبز "الرقاق" أو خبز "الشراك".
ويقول السكافي خلال انشغاله في تجهيز خبز الصاج لأحد زبائنه: "على الرغم من قدم صناعة هذا الخبز في المجتمع الفلسطينيّ، ووجود أصناف جديدة من الخبز الحديث في الأسواق مثل الفينو والتوست، إلّا أنّه لا يزال يعدّ صنفاً رئيسيّاً من أصناف طعام الغزّيّين، كما أنّه يعتبر عنصراً أساسيّاً في إعداد بعض المأكولات الشرقيّة مثل الفتّة التي يشتهر الفلسطينيّون بإعدادها يوم الجمعة من كلّ أسبوع -والتي تتكون من اللحم أو الدجاج المسلوق مع الأرز الأبيض وخبز الصاج الذي يبلل بمرق اللحم، ويرص في طبق ومن ثم يضاف إليه الرز واللحم ويزين بالمكسرات والصنوبر، وكذلك المسخّن الفلسطينيّ" -وهو عبارة قطع الدجاج الصغيرة المخلوطة بالبصل المفروم وزيت الزيتون والسماق، حيث يتم شويها ووضعها بخبز الصاج حيث تأخذ شكل السندويش الملفوف.
وتحّدث السكافي عن طريقة إعداد خبز الصاج، وقال: "يصنع العجين من الدقيق، مع إضافة القليل من الملح والماء الفاتر، ثمّ يعجن ليصبح عجينة لينة ولزجة يتمّ تقطيعها إلى كرات بحجم كفّ اليد، ثمّ يرشّ فوقها القليل من الدقيق لمنع التصاق كرات العجين الصغيرة باليدين خلال عمليّة الفرد. وتفرد كرات العجين باستخدام أداة خشبيّة أسطوانيّة الشكل تدعى الشوبك، ومن ثمّ تتدخّل أيدي الخبّاز لرقّ العجينة بتقليبها المستمرّ والسريع لتصبح شريحة كبيرة، يتمّ وضعها باستخدام وسادة اسفنجيّة على الصفيحة الحديديّة لثوان قليلة فقط، فتصبح جاهزة للأكل".
وأوضح أنّ صناعة خبز الصاج كانت على مدار العقود الماضية تتمّ داخل المنازل باستخدام الحطب في أجواء عائليّة ممتعة، وحديثاً نادراً ما تقوم ربّات المنازل بصناعته منزليّاً، حيث أصبح هذا الخبز ينتج في محلّات خاصّة بسبب التطوّر الحضاريّ وازدياد المسؤوليّات المنزليّة.
يقول أبو أحمد راشد (48 عاماً)، وهو أحد الزبائن الذين كانوا ينظرون إلى السكافي خلال إعداده الخبز لـ"المونيتور": "الجميل في خبز الصاج أنّه لا يصنع في أروقة المخابز وحجراتها الداخليّة كما الأنواع المختلفة من الخبز، بل في أماكن مخصّصة في مداخل المخابز وعلى أرصفة الطرقات، فمهارة الخبّاز وهو يقلب العجينة بين يديه بسرعة كبيرة ومن دون إفسادها، تجذب المواطنين إلى الشراء".
وأوضح أنّه يستخدم هذا الخبز كبديل عن الخبز العاديّ في كلّ وجبات طعامه مع أسرته، إحياء للتراث الفلسطينيّ، فضلاً عن رغبته في تناول خبز يدويّ صحيّ بعيداً عمّا تنتجه الآلات، على حدّ تعبيره.
ليس خبز الصاج الوحيد الذي يقبل الغزّيّون على شرائه لنكهته التراثيّة القديمة، فهناك أيضاً ما يعرف باسم "خبز الطابون" العريق حيث ينشغل الشابّ مراد القايض (22 عاماً) مع صبيحة كلّ يوم بإعداده لزبائنه داخل مخبزه الصغير الكائن في سوق فراس الشعبيّ وسط مدينة غزّة.
ويستطيع المارّون من على بعد 100 متر من المخبز اشتمام رائحة شهية من خبز الطابون الطازج، التي تجذبهم لشرائه.
ويقوم القايض بصناعة كرات من العجين ومن ثمّ يرقّها بيديه، ثمّ يضعها على وسادة اسفنجيّة لإلصاقها على الجدار الداخلي للفرن، وعند إتمام الخبيز، يستخدم الشابّ ملقطاً لإخراج الأرغفة وتقديمها إلى الزبائن.
ويصنع فرن الطابون من الطين المخلوط بالقشّ، وهو يأخذ شكلّ الصندوق مع وجود فتحة دائريّة في سقفه تبلغ المسافة بينها وبين القاع نحو نصف متر، ليشكّل تجويفاً يتّسع إلى أربعة وربّما خمسة أرغفة، يتمّ إلصاقها على جدار الفرن الطينيّ.
ويقول القايض لـ"المونيتور": "الإقبال على شراء هذا الخبز جيّد، وأحياناً يكون كبيراً بسبب عراقة هذا الخبز باعتباره إرثاً فلسطينيّاً متوارثاً، فضلاً عن رغبة الغزّيّين في مكافحة طغيان الحضارة على التراث القديم الذي يتمسّكون به".
وأوضح أنّ خبز الطابون يختلف عن خبز الصاج، فهو عبارة عن أرغفة متوسّطة الحجم تخبز داخل فرن خاصّ، كما أنّه في حاجة إلى المزيد من الوقت لإتمام خبيزه، ويتراوح بين 50 و70 ثانية، وليس ثوانٍ قليلة فحسب كما خبز الصاج.
كانت سماح العامودي (34 عاماً)، وهي ربّة منزل، أحد الزبائن الذين كانوا ينتظرون الانتهاء من إعداد خبز الطابون لشرائه، وتقول لـ"المونيتور": "ما يدفعني إلى شراء هذا الخبز هو طعمه الذي لا يمكن تناسيه، الأمر الذي يجعلني معتادة على شرائه في شكل يوميّ".
وأضافت: "خبز الطابون من المظاهر التراثيّة القليلة التي لا تزال تكافح الاندثار في غزّة، وهو يخبرنا بأنّ الحياة القديمة في غزّة كانت أجمل بكثير".
تحدّث الخبير في التاريخ والتراث الفلسطينيّ ناصر اليافاوي إلى "المونيتور" عن نشأة خبز الصاج والطابون في فلسطين، وقال: "بدأ الفلسطينيون يعرفون إعداد الخبز الفلسطينيّ مع نشأة الحضارة النطوفيّة في فلسطين أي قبل نحو 10 آلاف عام قبل الميلاد، حيث كان الناس يضعون حصىً سوداء اللون داخل حفرة مشتعلة بالنيران تسمّى الملّة، وبعد إطفاء النيران يتمّ وضع القمح المطحون المخلوط بقطع صغيرة من بعض الخضروات مثل البندورة والكرفس فوق هذه الحصى شديدة السخونة فتصبح خبزاً بعد وقت قصير".
وأوضح أنّ هذه الطريقة انتقلت إلى حضارات فلسطينيّة عدّة من بينها الحضارة الغسوليّة ثمّ حضارة وادي غزّة التي شهدت بدايات صنع فرن الطابون في عام 3200 قبل الميلاد، ومع دخول الحضارة الكنعانيّة في عام 3000 قبل الميلاد، عرف الكنعانيّون ما يعرف باسم الفرن البلديّ في المناطق الجبليّة، وخصوصاً مدينة الخليل جنوب الضفّة الغربيّة وهو فرن طيني دائري الشكل، لديه على جانبه فتحه على شكل قبة، يجلس أمامها الخباز لإدخال العجين إلى تجويف الفرن الذي يسمى (بيت النار)، ومن أسفله مكان مخصص لوضع الحطب المشتعل بالنيران.
وفي ما يتعلّق بخبز الصاج، قال اليافاوي: "إنّ الفلسطينيّين صنعوا هذا الخبز في مرحلة أعقبت اختراع الفرن البلديّ، وهو يعتبر شكلاً من أشكال التقدّم الحضاريّ، حيث كانت توضع صفيحة حديديّة ومن أسفلها الحطب المشتعل، أمام المساكن الفلسطينيّة القديمة".
وعلى الرغم من انتشار المخابز الآليّة وأشكال مختلفة من الخبز الحديث في غزّة اليوم، إلّا أنّ الفلسطينيّين ما زالوا متمسّكين بخبز الصاج والطابون كجزء من التراث الشعبيّ القديم. فبحسب اليافاوي، إنّ "سكّان الجبال ما زالوا يواصلون إعداد خبز الصاج، فيما تنشط حركة إعداد خبز الطابون لدى الفلّاحين والبدو في الصحراء والسهول".