بعد سنتين ونصف من غياب الأعمال العدوانيّة، عُرِفَ 6 أيلول/سبتمبر كأكثر يوم دموي تعانيه القوات الحكوميّة التّركيّة منذ اندلاع الحرب مجدّدًا ضدّ حزب العمّال الكردستاني في 24 تموز/يوليو.
وقع هجوم حزب العمّال الكردستاني في منطقة داغليكا الرّيفيّة في مدينة يوكسكوفا في محافظة حقاري حيث تتقاطع حدود تركيا مع العراق وإيران، وقد انفجرت عبوتان ناسفتان مزروعتان على جانب الطّريق أثناء مرور مركبتين عسكريّتين مدرّعتين، الأمر الذي أدّى إلى مقتل 16 جنديًا وجرح آخرين.
وتجدر الإشارة إلى أنّ عدد الضّحايا هو الأعلى في صفوف الجيش التركي بنجومه عن هجوم واحد، وذلك منذ نهاية تسعينيّات القرن الماضي التي شهدت أعنف الاشتباكات مع حزب العمّال الكردستاني. وإنّ هجمات حزب العمال الكردستاني التي تسبّبت بإصابات كبيرة منذ العام 1984، في بداية التمرّد المسلّح، أثّرت بشكل كبير على العامّة وعلى مسار النّزاع. ومن المحتمل جدًا الآن أن يشكّل هجوم داغليكا في 6 أيلول/سبتمبر نقطة تحوّل تنذر بهيمنة النّزعة الانفصاليّة في حزب العمال الكردستاني.
في اليوم عينه، سقط صاروخ على سيارة شرطة في دياربكر، أكبر مدن الجنوب الشّرقي المكتظّ بالسّكان الأكراد، ما أسفر عن مقتل شرطيّين وجرح ثلاثة آخرين، وقد فُرِض حظر تجوّل في جزء من المدينة. مع هؤلاء الضّحايا، يرتفع عدد رجال الشرطة الذين قتلهم حزب العمال الكردستاني منذ 24 تموز/يوليو إلى 33 شرطيًا، وهذا دليل آخر على تفاقم أجواء الحرب في شرق وجنوب شرق البلاد.
هذا ويتساءل الناس كيف سيتمّ ضمان الأمن في الجنوب الشّرقي من أجل انتخابات 1 تشرين الثاني/نوفمبر.
يخشى الكثير من المراقبين المخضرمين من أنّ الوضع الرّاهن يوحي بالعودة إلى سنوات الصّراع الدّمويّة في تسعينيّات القرن الماضي، عندما كلّف القتال بين حزب العمال الكردستاني والحكومة 40,000 شخص حياتهم. هل هذا هو الحال فعلاً؟
هل من المقدّر لتركيا أن تعيش من جديد الأيّام المحفورة في ذاكرتها الجماعيّة باسم "سنوات التسعين" عندما هاجم حزب العمال الكردستاني نقاطًا أماميّة للجيش، ليقتل بذلك جنودًا ومدنيّين أكراد، وعندما قامت فرق الموت بإعدام ناشطين أكراد وأُجبِر السّكّان على إخلاء آلاف القرى كي لا يتمكّن حزب العمال الكردستاني من إنشاء قواعد فيها؟
لدى مقارنة ما يجري اليوم مع ما جرى في التّسعينيّات، لا بدّ من تذكّر مكاسب الدّولة من هذه الاشتباكات. إحدى النتائج كانت الحدّ بدرجة كبيرة من القوّة المسلّحة التي يتمتّع بها حزب العمّال الكردستاني، فقد قامت الجمهوريّة التّركيّة، بفضل تكتيكاتها الخاصّة بمكافحة العصابات، بإضعاف حزب العمال الكردستاني بشكل ملحوظ في المناطق الرّيفيّة حيث كان يعمل، وفي العام 1999، جرى القبض على القائد المؤسّس لحزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان. عندها أعلن حزب العمال الكردستاني وقفًا أحادي الجانب لإطلاق النار وخفّض عدد قوّاته المسلّحة في الجبال.
أمّا السّؤال الذي يطرح نفسه الآن فهو ما إذا كانت القوات الحكوميّة قادرة على الفوز في الحرب الجديدة للعام 2015 كما فعلت في التّسعينيّات.
في الواقع، لا حاجة إلى التّفكير مليًا في هذا السؤال، إذ من غير الممكن أن تجري مواصلة مثل هذه الحرب، لذا يصبح النقاش حول من سيفوز بها في غير محلّه. وتبرز أسباب كثيرة لهذا التوكيد.
أوّلاً، في ثمانينيّات وتسعينيّات القرن الماضي، كَمَنَ مركز التحرّك الكردي في المناطق الرّيفيّة بشكل أساسي، وكان حزب العمال الكردستاني تحرّكًا سعى أوّلاً إلى تشجيع القرويّين على الثورة. ومع بداية القرن الحادي والعشرين، وتسييس المسألة الكرديّة وتحوّل التّحرّك الكردي إلى ظاهرة جماهيريّة، انتقل مركز الثّقل من المناطق الرّيفيّة إلى المدن. جرى هجوم داغليكا في منطقة ريفيّة، لكنّ مركز النّزاع الذي بدأ في شهر تموز/يوليو ليس في الجبال بل في مدن وبلدات من الجنوب الشرقي حيث الأكثريّة الكرديّة. وهذه مناطق حضريّة حصلت فيها الأحزاب الكرديّة على أعلى عدد من الأصوات وينتشر فيها النشاط الأساسي لهذه الأحزاب على نطاق واسع. بات من المستحيل التمييز بين التحرّك الكردي في المدن وأكثريّة الأكراد الذين يعيشون هناك، ولذا بات من الملائم إطلاق اسم "الحرب الكرديّة" على سلسلة الاشتباكات الأخيرة.
لن يكون من الواقعي الاعتقاد بأنّ سياسة الأرض المحروقة التي جرى اعتمادها في التّسعينيّات، والتي هدفت إلى إجلاء المناطق الرّيفيّة قسرًا لحرمان حزب العمال الكردستاني من هذه الموارد، يمكن تكرارها اليوم في المناطق الحضريّة.
لكنّ الاستمرار بالعمليات الأمنيّة في المراكز الحضريّة الجنوبيّة الشّرقيّة قد يضعنا أمام مشاهد دمار تذكّرنا بما جرى في القطاع الرّيفي في التّسعينيّات.
لن يكون من السّهل التّعامل مع انعدام الاستقرار الناتج من الأضرار الاجتماعيّة، والحضريّة والاقتصاديّة التي ستلحق بكافة أنحاد البلاد نتيجة الاشتباكات بين الدّولة وآلاف المقاتلين المسلّحين في المناطق الحضريّة، كما لن يكون من السّهل تبرير هذه الصّورة للعالم أجمع.
تستطيع أنقرة طبعًا تنفيذ عمليات بريّة فعّالة وواسعة النطاق ضدّ قواعد حزب العمال الكردستاني في المنطقة الكرديّة في العراق، لكنّ هذا لن يغيّر حقيقة أنّ المشكلة الحقيقيّة تكمن في التحرّك الكردي الذي يحظى بشعبيّة كبيرة في المدن.
ثانيًا، إنّ الجمهور التركي غير مقتنع بأنّ الحرب التي بادر إليها أردوغان ضروريّة لأمن تركيا، والدليل الواضح على ذلك هو احتجاجات عائلات رجال الشرطة والجنود القتلى والحشود التي تحضر جنازاتهم، والذين يحمّلون الحكومة المسؤوليّة الأكبر. وتجدر الإشارة إلى أنّ حكّام تركيا لم يشهدوا قطّ مثل هذه التفاعلات الجماعية والمستمرة في الجنازات.
ثالثًا، وكما أكّدت في مقالي بعنوان "حرب أردوغان" الذي نشر في المونيتور بتاريخ 26 آب/أغسطس، جرى للمرّة الأولى منذ 13 عامًا من حكم حزب العدالة والتّنمية، التّخلّي عن موقف الابتعاد عن الأعمال العدائيّة وكان استئناف الحرب الخيار السياسي للحكومة في الانتخابات المقبلة.
في تسعينيّات القرن الماضي، كان نضال الدّولة العازم على إلحاق الهزيمة العسكريّة بحزب العمال الكردستاني ذا طبيعة استراتيجيّة. أمّا بالنسبة إلى الحكومة الحاليّة، فالتخلّي عن موقف الابتعاد عن الأعمال العدائيّة هي خطوة تكتيكيّة ذات أهداف سياسيّة، وهو قرار غير حازم ويمكن إعادة النّظر فيه في أيّ وقت.
رابعًا، كان أوجلان القائد الوحيد لحزب العمّال الكردستاني، وقام القبض عليه وتسليمه لتركيا بهزّ التّنظيم من جذوره. أمّا قيادة حزب العمّال الكردستاني الحاليّة المتمركزة في جبل قنديل في العراق فهي كيان جماعي، ما يجعل الحصول على نتائج ملموسة عبر شخص واحد أمرًا مستحيلاً.
خامسًا، وبفضل الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني، أي حزب الاتّحاد الدّيمقراطي المدعوم من الولايات المتّحدة، أصبح حزب العمال الكردستاني الشّريك العسكري الأكثر أهلاً للثّقة في التّحالف الغربي من حيث العمليات البريّة ضدّ تنظيم الدّولة الإسلاميّة. بالإضافة إلى ذلك، برز حزب العمال الكرستاني كالمدافع الوحيد عن العلمانيّة من بين الحكومات والجهات الفاعلة غير الحكوميّة في منطقة يلفّها التطرّف الدّيني. وفي الرّأي العام الغربي، تساهم جميع هذه المزايا في شرعيّة التّحرّك الكردي في تركيا وتصّعب على الحكومات الغربيّة الموافقة على قمع حزب العمّال الكردستاني، وهذا عامل آخر يحدّ من إمكانيّة استمرار الحرب.
سادسًا، أدّى النزاع إلى تدهور ملحوظ في الأمن الاقتصادي والقدرة على التّنبّؤ بالوضع الاقتصادي، وهذا أمر إضافي يهدّد اقتصاد تركيا الهشّ. وكما هو متوقّع، أثّر الوضع سلبًا على القطاع السياحي. ومن المتعارف عليه أنّ الحرب تؤدّي دورًا في الانخفاض اليومي في قيمة الليرة التركيّة مقابل الدّولار الأميركي.
ونستعرض الآن سريعًا ما قد يحصل في حال واصلت حكومة أردوغان هذه الحرب غير العقلانيّة.
العامل الأول الذي يجب ألّا يغيب عن أذهاننا هو موقف قيادة حزب العمّال الكردستاني في جبال قنديل. قبلت جبال قنديل بهذه الحرب وهي تخوضها طوعًا بأساليب عنيفة، ما يسبّب ردّات فعل قويّة في غرب البلاد. وإنّ أولئك المتواجدين في قنديل لم يتخلّوا قطّ بشكل كامل عن هدفهم الانفصالي الذي بات رائجًا من جديد.
تستطيع قنديل تصعيد الحرب، كما شهدنا في هجوم داغليكا في 6 أيلول/سبتمبر، أو قد تخرج الحرب عن السّيطرة نتيجة تطوّراتها الخاصّة. إذا حصل ذلك، قد تضطرّ تركيا لمواجهة انتشار العنف في المدن الكبرى، والاشتباكات الإثنيّة بين الأتراك والأكراد، وتدويل القضيّة الكرديّة في تركيا وعودة الوصاية العسكريّة التي قيل لنا إنّها انتهت ولن تعود أبدًا.
إذًا من أجل حماية تركيا من التّداعيات المحتملة لهذه المخاطر، تبرز ضرورة ملحّة للتوصّل إلى وقف لإطلاق النار وضمان إجراء انتخابات 1 تشرين الثاني/نوفمبر في بيئة آمنة.